عزت القمحاوي يكتب في ظل «الأيك»

سارة ضاهر

وُلِدَت «الأيك» (دار التنوير للطباعة والنشر) مع بداية ألفيّة جديدة لتصبح تاريخًا يفتح فيها الكاتب نمطًا مغايرًا من الكتابة والسرد المتعدّد الفصول. فصل وراء فصل يضجّ بالمتعة الخجولة والسرد الجميل والحزن الإنساني، يدوّنها قلم رهيف لكاتب حقيقي.
و«الأيك» هو، كما ورد في المعجم «الشَّجر الكثير الملتفّ»، و«الإنسان ذو الحسب والنسب»، ولا يغيب هذا المعنى عن الكتاب/ النصوص، للروائي المصري عزت القمحاوي، إذ يتضمّن حقولًا متداخلة من المعرفة، والمقولات الشعبية، وأجواء لطف ومسامرة، كأنه «كتاب ألف ليلة وليلة»، بنسخة عصريّة تمامًا، مع مسحة من السخرية المرّة عن سِيَر الحكومات ومساراتها، وتشوّهات الأثرياء الجدد، وطباع المواطنين المصريين. كتاب غريب، مضحك، مبكٍ، ممتع، ومقتحم. يركّز كثيرًا على الحواس التي يكاد الإنسان أن يفقدها لاهثًا وراء التكنولوجيا والآلات الميكانيكية.
يقودنا الكاتب هذه المرة لاكتشاف حواسنا من جديد، ويصعد بنا إلى فضاءات لم يعرّج عليها أحد من قبل، فهو يدعونا إلى الالتفات إلى دقائق الحياة التي تتوه وسط انشغالنا اليومي بالعمل أو الهواية.

حاسة الصوت
كتاب من سبعة عشر فصلاً، تنوّعت فصوله وتعمّقت بكتابات أتت بشيء جديد ومخالف لما اعتدنا عليه: الفصل الأول، بعنوان «بسط اليد»، هو بداية رواية، تختمر وتتهيّأ داخل نفس الكاتب، فيذكر مراحل تدوينه لها، معتمدًا على موهبته، ومتأثرًا بمَن سبقه من الكتّاب. الفصل الثاني «وقع الأصابع»، خصّص الكاتب هذا الفصل لحليب الأم، ذاكرًا مدى ارتباط الإنسان به طوال سنيّ حياته. الفصول التالية، تحمل عناوين مختلفة: «أصوات الرغبة»، «رائحة المعرفة» «مطارح الغرام»، «سيرة الشهوة والورع»، وعناوين أخرى، يذكر خلالها الكاتب أهميّة الحواس في شكل عام، ويتابع مواكبًا تطوّر الزمان والحداثة والعلم، بدءًا من العصور القديمة وصولًا إلى الحديثة منها، عصر التكنولوجيا؛ بارزًا أهميّة حاسّة الصوت ودورها في مجالات الحياة. ويرى الكاتب، في فصل آخر أنّ فرصتنا الأولى في الخلود أضاعها الأبوان عندما أكلا من الشجرة المحرّمة. ويذهب الكاتب في هذا الفصل باحثًا بين الكتب والمخطوطات الشهوانيّة عن شيء يتعلّق بأماكن الحب والأماكن المؤجّجة للرغبة. ولكن كل ما وجده كان عبارة عن كلام لا يطابق واقعًا! كأنه يجرى في اللامكان!
ويتناول القمحاوي في «بنيان الإلفة» قصّة الإنسان منذ الولادة، وقدوم الوليد إلى عالم لم يختره هو، بل عالم بناه وأثّثه آخرون. وتحضر الفنادق في «مصايد الوحشة»، هذا المكان الذي يشبه السجون المغلقة، وهما أماكن ارتحال. ويحضر افتقار المجتمع العربي إلى الحرية في «مسخ الكائن»، وبالتالي فإنّ تأمّلاتنا حول الجسد يجب أن تنطلق من غياب الحريّة وليس من الأعراض الجانبيّة لحضورها. فالحريّة نفسها تتمتّع بها، منذ البداية، المجتمعات الشفاهيّة التي لم تتعقّد علاقتها بحواسها بفعل المنظومات الأخلاقيّة التي عرفتها حضارات التدوين. وربما أراد الكاتب أن يقول: إنّ جمود النظام الأخلاقي يمنع الفرد من الاستمتاع بجسده كما يشتهي، ويحد من حركة هذا الجسد، إذ تكفي مقارنة بسيطة بين نظرة العين المشبعة وحركة الجسد العفوية في أفلام المجتمعات الحرة وحركته في الأفلام العربية. إذ إنّ افتقاد العدالة السياسيّة لا يترك الجسد دون أثر. فإنّنا في مجتمع اللامساواة، يمكننا بسهولة تمييز مَن يعانون نقص الحرية ممّن يتمتّعون بفائضها من خلال شكل الجسد وعلاقته بالفراغ المحيط به. فالتنوع السياسي الاجتماعي المحدود في الوطن العربي، يتيح مشاهدة التباين في علاقة الجسد بالفراغ ليس فقط بين نموذج السلطة ونموذج الرعية، بل بين شعوب وشعوب هي في الأصل واحدة.
ويتابع عزت القمحاوي الحائز جائزة نجيب محفوظ في 2012 عن روايته «بيت الديب»، شغفه بالحواس، في «مذاق العفة»، حيث الشعوب القديمة كلها لا تفصل الفراش الجيد عن الطعام الجيد أبداً! حاسّة أخرى في «سحق الرقة» وهي السّمع، إذ كان على الأذن أن تقوم وحدها بكل وظائف الاتصال بعالم الجمال الأنثوي، تتنازعها العديد من الأصوات، ولم تجد صعوبة في الفرز والفهرسة ووضع كل صوت في مكانه المناسب من النفس، فأهم ما يميّز الصوت هو حسيّته، والتخطيط المبدئي للجسد الطالع منه لم يكن غريب الصورة. صورة غير واضحة تفضي إلى أنثى راغبة، خجول، تشتاق حبيبها البعيد، لكنّه موجود في كل تفصيل من حياتها، هو قال لها ذلك. وتتساءل هل سيأتي ليكون إلى جانبها، أم أنه يخشى الوقوع، ويتركها وحيدة تقع، يحتضنها حزنها.

خزين الماضي
فصل آخر بعنوان «خزين الماضي»، يتحدّث عن واقعة أو مصادفة سعيدة، هي ولادة التصوير الفوتوغرافي إلى جانب الرواية، فكلا الفنّين يسعى إلى تمجيد الكائن الفاني، بعد أن كان الإنسان مجرّد ظلّ لأصل مطلق خفيّ في الملحمة والتمثال، صار الأصل في الرواية والصورة! لكنهما، مع ذلك، لم ينجحا في إقناع الإنسان بحقيقة وجوده الزائل أو السيطرة على نزوعه نحو المطلق، بل أيقظا فيه النزوع للخلود، وإن عبر التقنيّة وليس الإيمان. في الوقت الذي منعت مشاغل الحياة البشر من كتابة الروايات التي تتطلّب نوعًا من الاحتراف، فإنّها وضعت في أيديهم الكاميرات الفوتوغرافيّة أولًا، ثمّ كاميرات الفيديو لاحقًا، لكي يمارسوا هوس الأبدية على هواهم!
بالإضافة إلى الفصول السابقة، هناك فصول أخرى تحت عناوين: «راية الاختلاف»، «مجاز المؤانسة»، «عودة إلى المهد»، «القصة الأخيرة». أتت هذه الرواية/ الكتاب، نموذجًا سرديًّا بين السيرة والرواية، سيرة كل إنسان عن ذاكرة الحواس ورحلتها، ليست الحواس بمفهومها الظاهري فقط، بل الحواس في لعبتها الأكثر خفة وسرية، الحواس الباطنية الصامتة التي لا تندمج مع حواس ناطقة، بل تستقل عنها تمامًا وتكشف عن هويتها الأعمق، تذكر وتتذكّر الأحداث المفرطة في الجمال، كما المفرطة في القبح. هكذا تتكشف في «الأيك» مغامرات المسرّة والشهوة، لكن يظل الأبرز ذاك الاحتفاء بالحياة والبهجة في التعامل معها على رغم أنّ كلمة «الأحزان» تأتي ككلمة ثالثة في عنوان الكتاب/النصوص، ربّما لأنّ الكاتب لا ينكر الأحزان بل يؤجّلها ويحتفي في نصّه بمسرّات حقيقية.
يجسّد «الأيك» تجربة مغايرة لها استقلاليتها التامة عن التشابه مع أي عمل آخر. فاستسلم فيه القمحاوي لغواية فريدة، ليأتي النص مفتوحًا يشدّك للرّجوع إليه مرّات من دون الإحساس بأي ملل. إذ لم يكتف الروائي المصري بسرد سيرة الحواس وحكاياتها، بل أغنى رؤيته في الاستدلال بذكر نصوص أدبية عالمية وعربية عثر فيها على حواديت متفرقة عن غوايات وقع فيها كتّاب آخرون. وجاء السرد سلسًا وسهلًا، ليس لأنّ الموضوع يتطلّب ذلك، وإنما لنتمكّن من تقبّل فكرة قاسية تمامًا، فكرة فقداننا حواسنا، معرفتنا دواخلنا، تقديرتنا طبيعتنا.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى