‘فتيان الزنك’ رواية التوابيت المغلقة على آلاف القصص

عبد الله مكسور

استطاعت الكاتبة والصحافية البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش في روايتها “فتيان الزنك” أن تنقل مشاهد الحرب وصور الجنود وهم يخوضون معارك لا يعرفون سببها بالضبط، وبالنسبة إليها يختلط مفهوم الضحية، فلا تمييز هنا بين الجلاد والضحية، كما تمكنت أليكسييفيتش من رواية التفاصيل التي تكوّن الصورة الكاملة للمشاهد الملطخة بدماء الأبرياء.

كيف تمكن في آن واحد معايشة التاريخ والكتابة عنه؟ فلا يمكن أن تؤخذ أي قطعة من الحياة وجميع القذارة الوجودية عنوة، ووضعهما في كتاب وفي التاريخ، إذ لا بد من تحطيم الزمن واقتناص الروح؟ وهذا هو التساؤل المحوري الذي تدور حوله الحكايات العديدة التي يطفح بها “فتيان الزنك”، عمل الكاتبة البيلاروسية الحاصلة على جائزة نوبل للآداب عام 2015، سفيتلانا أليكسييفيتش والذي صدر باللغة العربية عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، بترجمة المترجم العراقي المقيم في موسكو، عبدالله حبه، والذي كان فاتحة القول في ترجمة أعمالها إلى العربية بعد فوزها بالجائزة.

وعبر 365 صفحة ومن خلال فصول قليلة، تمنح الكاتبةُ القارئَ رؤية واضحة للحرب التي لا يعرف الجنود فيها هل هم مقاتلون أبطال أم مجرمون؟ تصل سفيتلانا إلى قناعة أنَّهُ ما من جدوى لإنجاز تقرير صحافي أو ريبورتاج مصور عن الحرب التي تمتد دوائر المواجهة فيها لتصل إلى كل الأطراف بين صانعيها والمتضررين منها، تفرّق أليكسييفيتش بالكثير من الحذر على لسان ذوي الجنود السوفييت، بين الرواية الرسمية التي تديرها المَاكنة الإعلامية للاتحاد السوفييتي عن التواجد العسكري للقوات في أفغانستان، وبين مشاهدات الجنود الحية التي تطيح بالأسباب التي تروجها قيادتهم عن المشاركة بالإنماء وبناء الجسور والمساعدات الطبية.

أعوام الحرب

تقول سفيتلانا أليكسييفيتش إن آلية عملها تقوم على جمع الشهادات الحية من الذين حضروا المأساة، وهذا لا يقتصر على طرف بعينه، بل تلجأ الكاتبة إلى كل العناصر لترسم الصورة الكاملة وتعيد تجميع المشهد المكاني في مدن أفغانستان، بفضاءاتها الزمانية بين عامي 1979 و1985، سنوات الحرب السوفييتية على أفغانستان، لتضعنا الكاتبة في مواجهة صادمة مع أسباب لجوئها إلى الكتابة عن المهمَّشين في الحرب، أولئك الذين صادروا كل القصص لصالحهم فكانوا الرواة المجهولين في متن الكتاب، وهم الأصوات الخافتة التي ظهرت على غلاف النص

العربي في قلب التوابيت المصنوعة من الزنك، المغلقة على فتيان خاضوا مواجهات عسكرية في حرب لم يعلموا أنهم سيموتون خلال جولاتها بعد أن أخبرهم القادة في موسكو بأنَّهم ذاهبون لبناء الاشتراكية في تلك البلاد.

وفي الواقع لا يوجد رابط بين القصص التي قدَّمتها الكاتبة في كتابها، فهي لا تطرح عملا إبداعيا خالصا، بل شهادات حيَّة قضت في جمعها والاستماع لأصحابها سبع سنوات كاملة، مارست خلال شهورها الانتقال بين الأصوات المختلفة عبر ضمائر سردية متعددة، وبمسافة واحدة من كل الأطراف رغم انتصارها الواضح للإنسان الذي كان ضحية لصراعات تحدد مصائره الوجودية، تلك المسارات الحكائية التي ابتعدت فيها أليكسييفيتش عن إدانة أي أحد في ظاهر القول كانت سببا في ورطتها التي استمرت لجلسات محاكمة أمام القضاء الروسي عقب نشر الكتاب باللغة الروسية، تحت تهمة عنوانها المخفي “إفشاء وجه الحرب الذي لا تريد إظهاره السلطة”.

الترجمة إلى العربية جاءت من الروسية مباشرة، بمعنى أنها لم تأت نقلا عن لغة وسيطة، وهذا ما يمنح الكتاب الشحنة العاطفية التي تسيطر على جوانبه والتي تمكَّن المترجم من نقلها عبر صور متعددة بدَت وكأنها مكتوبة بالعربية، أذكر هنا مشهدا أوردته الكاتبة في “فتيان الزنك” عن طفل أفغاني يرقد في مستشفى أهدته أليكسييفيتش لعبة فمسكها بأسنانه، لأنَّ الجنود السوفييت قطعوا أطرافه كما قالت الأم للكاتبة.
مفارقات ومصائر

المفارقات والثنائيات التي ترد على تحوُّل مصائر الإنسان بين ضحية وقاتل، بإرادة منه أو دون إرادة، تفتح الأسئلة التي تثيرها أليكسييفيتش في النص بحساسية عالية حول الضمير الجمعي على ضفتي المواجهات، لتقول مثلا “من نحن؟ لماذا فعلنا ذلك؟ ولماذا حصل لنا ذلك؟ والأهم لماذا صدَّقنا ذلك كله؟”.

وهذه الأسئلة في حقيقة الأمر تحمل دلالات عديدة، فتوحي بأنَّ الكاتبة كانت تعيش ضغطا من نوع آخر تحت سلطة الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، فهي لا تشير في الأسئلة الواضحة/الغامضة بشكل مباشر إلى الحرب، بل تكتفي بلغة حمَّالة أوجه تتضمن مقدِّمات الحرب وجولاتها ونتائجها معا في صورة للآلاف من القتلى في توابيت من الزنك وللآلاف من المعطوبين والمفقودين.

الخيالُ في “فتيان الزنك” هو الواقع الذي تورثه الحرب في أسئلتِها المعلَّقة على احتمالات مفتوحة بإجابات نجدها منثورة على لسان ضحايا كانوا في جوهر الأمر ضحيةَ صراعٍ لم يكونوا طرفا فيه بإرادتِهِم، لذلك جاءت توطئة الكتاب منسوبة إلى “أم” دون تحديدها لأنها في صورتها الخاصة تحمل همّا جمعيا متناقضا في ذاته وتوجهاته تحت سلطة الاستبداد، تلك الأم التي أرسلت ابنها مع القوات السوفييتية إلى أفغانستان كي يصبح جسورا وقويا، فعادَ إليها على قيد الحياة برتبة مجرم احترف القتل.

تختصر أليكسييفيتش صورة الحياة بعد عودته في مقطع من التوطئة تقول فيه “لقد تحدَّث مرة واحدة فقط عن أفغانستان في إحدى الأمسيات، جاء إلى المطبخ حيث كنت أطبخ طبق الأرانب، كانت القطعة ملطَّخة بالدم، مرَّر أصابعه على الدم وتطلَّع إليه، قائلا لنفسه جلبوا صديقي وبطنه ممزَّق، رجاني أن أطلق النار عليه، وقد فعلت”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى