الفن السابع بين اللغة الشعرية وسطوة الصورة

يقوم الناقد الجزائري عبدالكريم قادري في كتابه “سينما الشعر.. جدليّة اللغة والسيميولوجيا في السينما” بتحليل ودراسة اللغة في السينما من خلال إبراز انعكاساتها وارتداداتها عبر النظرية الشهيرة التي أطلقها الكاتب والسينمائي الإيطالي بير باولو بازوليني، التي تناول فيها إمكانية إيجاد وخلق لغة في السينما عن طريق علم العلامات – الصور أو السيميولوجيا في السينما.

كما يقوم الكتاب بدراسة جميع جوانب اللغة في السينما، لتقديم فهم أفضل وأوسع لنظرية سينما الشعر، ومن هنا كانت البداية عبر تقديم نظرة شاملة للعديد من المكونات والمصطلحات التي لها صلة بالنظرية، فقد وجد واضع الكتاب نفسه مُلزما بالذهاب بعيدا من خلالها، حيث ذهب إلى أصولها وشرح أبعادها وأهميتها في تكوين الدراسات الحالية التي باتت تتميز بحلّة جمالية جديدة، وذلك انطلاقا من فهم وتفسير الصورة التي باتت تمثل أحد المرتكزات المهمة والضرورية في حياة الفرد والمجتمع في العصر الحديث، من خلال تحليلها سيميولوجيا، كما يقوم هذا الكتاب بدراسة تطبيقية لفيلم “كلب أندلسي” للمخرج الأسباني لوي بونويل مع تقديم لنماذج مختلفة كانت عبارة عن عيّنات علمية لنظرية بازوليني، ويتعلق الأمر بمخرجين عالميين وهم جون لوك جودار ومايكل أنجلو أنطونيوني، وبرتلوتشي.

رفوف مكتبة البحث والترجمة والتأليف في مجال السينما، لا تزال خاوية تبحث دائما عمن يضيف ورقة فيها

سينما الشعر

يأتي هذا الكتاب الصادر عن منشورات المتوسط بميلانو في إيطاليا ليُسهم في تسويد ورقة من كتاب النقد السينمائي العربي الأبيض، وهي أوراق فارغة تحتاج لجهود كبيرة وسنوات من الكتابة لصبغ جزء منها وتقديمه للقارئ العربي، الذي يبقى في حالتي جوع وعطش معرفيّ كبيرتين في هذا الجانب، وحتى في جوانب أخرى، لأنّ رفوف مكتبة البحث، والترجمة والتأليف في مجال السينما لا تزال خاوية تبحث دائما عمن يضيف ورقة إليها.

ويقدم الكتاب نظرة شاملة للعديد من المُكونات والمصطلحات التي لها صلة بنظرية “سينما الشعر”، إذ كان أولها مع الفكر الماركسي أو ما يطلق عليه بمصطلح “علم الجمال الماركسي”، الذي انبثقت عنه الكثير من المذاهب والنظريات والحركات الأدبية والنقدية، أهمها البنيوية التي اعتنت بالدراسات اللسانية، وعلى رأسها “اللغة” التي تعتبر محورا أساسيا لها، وقد كان دي سوسير من أبرز الدارسين لها، كما قام هذا اللغوي بثورة علمية ونظرية ناهيك عن النبوءة التي ساقها لطلبته في إحدى المحاضرات التي ألقاها عليهم مطلع القرن العشرين وذلك حين تحدث وأشار إلى علم مستقل وهو علم العلامات (السيميولوجيا)، إضافة إلى دعوته للنظر إلى “اللغة” كروح ومجموعة من النظم “الإشارية والرمزية والعلامات”، والأخيرة تسمى “السيميولوجيا” بما أنها جزء من تركيبة اللغة وتحمل أهمية أساسية في نظرية “سينما الشعر”.

ويذهب المؤلف إلى أصول النظرية، شارحا أبعادها وأهميتها في تكوين الدراسات الحالية، والتي باتت لها حلّة جمالية جديدة ألبست النصوص لباسا مغايرا تماما، وقدّمت فهما باطنيا وظاهريا غير تقليدي للمنتج الفني والأدبي، وقد تناولها رولان بارت بشيء من التحليل والتفسير ودرسها بشكل معمق وفقا لمتطلبات العصر الحديث، الذي تعتبر فيه الصورة أحد المرتكزات المهمة والضرورية في حياة الفرد والمجتمع، ليكون بذلك هذا الناقد الفرنسي أول من دعا إلى “التحليل السيميولوجي للصورة” عن طريق كتابه الذي صدر سنة 1964، والمعنون بـ”عناصر السيميولوجيا”، وقد جاء قبل نظرية بازوليني بحوالي 11 سنة كاملة، وبعد أكثر من نصف قرن تقريبا من محاضرة دي سوسير.
كتاب يختصر مسافات البحث في مفهوم “سينما الشعر” وتقريبها للمتلقي

نماذج من الأفلام

من جهة أخرى تناول الكاتب بحث بازوليني بشيء من التحليل والمُعالجة، كما نقل النقاشات التي دارت بين مجموعة من الكتاب ونقاد السينما حول هذا الموضوع، ولعل أهمّها تلك التي أفرزتها كتابات كل من كرستيان ميتز، وبيتر وولين، وأمبرتو إكو، على اعتبار أن “السيميولوجيا” جزء من “اللغة”، ولكن الكاتب لم يكتف بذلك بل قدم العديد من المحطات التي مر بها كل من المخرجين الذين ضمنهم بحث بازوليني والذين ساق البعض من أعمالهم السينمائية كأمثلة لتفسير البعض من الجوانب المظلمة والعصيّة على الفهم، ويتعلق الأمر بفيلم “الصحراء الحمراء” لمايكل أنجلو أنطونيوني و”قبل الثورة” لبرناردو برتلوتشي و”محطات” لجان لوك غودار.

وفي جزء من الكتاب يتتبع المؤلف مسار هؤلاء المخرجين الثلاثة ويقدم دراسة مفصلة لأبرز محطاتهم الحياتية وأعمالهم السينمائية ومرجعياتهم الفكرية، ليخرج بخلاصة عامة هي عبارة عن دراسة مقارنة لهم، كما دعم هذا البحث بدراسة تحليلية اعتمد فيها على التحليل السيميولوجي كدراسة تطبيقية، وهذا لمسار وفيلم المخرج الأسباني لويّ بونويل “كلب أندلسي” المنتج سنة 1929، إذ أشار له بازوليني كنوع من “السينما الشعرية المُتطرفة”، ناهيك عن البعض من المحطات الفكرية والفلسفية والفنية الأخرى، التي تناولها هذا البحث “سينما الشعر.. جدلية اللغة والسيميولوجيا في السينما”، خدمة للبحث وإثراء له.

وتبرز أهمية هذا الكتاب في أنه جاء ليختصر مسافات البحث في مفهوم “سينما الشعر”، وتقريبها للمتلقي، حيث سيكون بمثابة المرجع الذي يمكن العودة إليه كلما تطلبت الحاجة إلى ذلك.

ومن جهة أخرى لا يمكن القول بأن هذا الكتاب درة مصونة وجامع شامل لجوانب “اللغة في السينما” وشرح مستفيض لنظرية بير باولو بازوليني، لكن ربما سيكون بوصلة تهدي التائهين في صحراء السؤال، وتفتح شهية الباحثين والنقاد لتقديم كتب وبحوث أخرى خدمة لنفس البحث وإغناء للمكتبة العربية الفقيرة جدا في مجال الفن السابع، كما سيسمح للمُتلقي/القارئ العربي بأنّ يطلع على جوانب عدة من موضوع “سينما الشعر”، وما يتصل به من فروع اللغة السينمائية، من سيميولوجيا ومذاهب أدبية ونقدية أخرى، ناهيك عن الدراسات التحليلية والمقارنة التي قام بها قادري كجانب تطبيقي لتسهيل عملية فهم الجانب النظري المُعقد وكل ذلك يمكن العثور عليه في هذا البحث بدل جمعه من العشرات من الكتب والمجلات والصحف والمواقع الإلكترونية، حيث سيُريح القارئ من هذه المشقّات بمجرد حصوله على كتاب “سينما الشعر.. جدلية اللغة والسيميولوجيا”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى