مهرجان طوكيو السينمائي

محمد موسى
لا يُخصِّص مهرجان طوكيو السينمائي مسابقة أو برنامج عروض خاص بالسينما التسجيلية، وكما يفعل اليوم عدد متزايد من المهرجانات السينمائية حول العالم، وهو الأمر الذي علّله مدير المهرجان “ياسوشي شينا”، بأن إدارته تريد للفيلم التسجيلي أن يجد مكانه بحرية بين البرامج المختلفة للمناسبة السينمائية السنوية، حيث الاختيار يقع دائماً على الفيلم الجيد المختلف الذي يُثير أسئلة وجدالات بغض النظر عن فئته، شرط أن يتناسب مع البرنامج السينمائي الخاص الذي يُعرض ضمنه. لذلك توزعّت الأفلام التسجيلية على برامج مختلفة في الدورة التاسعة والعشرين من المهرجان (عقدت بين الرابع والعشرين من شهر أكتوبر وإلى الثالث من شهر نوفمبر)، إذ عُرض بعضها كجزء من برنامج العروض العالمية، فيما تم برمجة الأفلام التسجيلية اليابانية في المهرجان في قسم العروض الخاصة وضمن البرامج التي تُعنى بالسينما اليابانية في المهرجان.

وبينما كان التجديد والبحث عن معالجات غير مألوفة وأحياناً مُتطرفة في تجريبها سمة الأفلام الروائية اليابانية التي عُرضت في المهرجان، طُبعت الأفلام التسجيلية اليابانية بمُحافظة بنائية وشكليّة كبيرة، وشاب الضعف والتشتُّت أحدها، رغم النافذة التي أتيحت لذلك الفيلم على عالم المصارعة الحرة اليابانية الذي يقدمه والمجهول لكثر. فيما يُمكن الجدال حول النسخة المرممّة من الفيلم التسجيلي الطويل عن أولمببياد طوكيو عام 1964، والتي عرضها المهرجان ضمن العروض الخاصة، واذا كان العمل ذاك يندرج ضمن الأفلام الدعائية الترويجية، أو أنه يملك من السمات التي تجعل مشاهدته الآن وبعد أكثر من خمسين عاماً على تصويره فعل ذو أهمية تتجاوز المناسبة تلك، لقيمة الشهادة التاريخية والنفسية التي يتضمنها، وللطبيعية الفنيّة في تصوير كثير من مشاهده التي تميزت عن السائد في وقتها، وربط الفيلم لتلك المشاهد ببعضها بأسلوبية مُشوقة مُتأملة لتقدم قصة مثيرة وأحياناً عاطفية عن المناسبة الرياضية.
صحافيان وقرن من الزمان
لم يتقاطع طريق شخصيتي فيلم “صحافيان: قرن واحد” “تسونكو ساساموتو” و “تكاي مونو” للمخرج الياباني “أتسونوري كاوامورا” على طوال عمرها المديد الذي وصل إلى المائة عام، لكن الإعلام الياباني والذي اكتشف قصتهما قبل أعوام قليلة جمعهما معا في عدد من مناسبات التكريم التي نظمت للاحتفاء بهما. هما صحافيان شهدا على أحداث بلدهما الكبيرة لجزء طويل من القرن العشرين، وانسحبا من الحياة العامة مبكراً. بخاصة “مونو”، الذي ترك جريدته الكبيرة وقتها وتوجّه إلى مدينة صغيرة، وليبدأ من هناك صحيفة محلية أدار تحريرها لعقدين. فيما واصلت زميلته “ساساموتو”، عملها في الظل كأول صحافية فوتوغرافية في اليابان، قبل أن يطالها النسيان، وليعاد في السنوات الأخيرة اكتشاف قيمة الصور التي التقطتها كاميراتها، وريادتها في مجالها رغم نشأتها في ظروف اجتماعية لم تكن هينة أبداَ.

بعد المشهد الأول والذي وثّق لقاءً عاماً جمع “ساساموتو” و “مونو”، يبدأ الفيلم بالتنقل بين شخصيتيه الرئيستين، مقدما بالتوازي سيرتي الطفولة والشباب واكتشاف الصحافة والعوالم التي فتحت أبوابها لهما بفضل مهنة المتاعب، وبعدها تمردّهما على النظم السائدة. يبرز الفيلم محطات مهمة من حياة شخصيتيه، جامعاً بين الخاص والعام، وليصل معهما إلى الزمن الحاضر، وهما يقتربان من عمر المائة عام، محافظان على الذهنية المُتقدة نفسها، وبالإيمان الذي لا يتزحزح بالأفكار ذاتها التي حملاها في شبابهما، وإن كانت “ساساموتو” تحمل في شيخوختها كثير من الندم، على حياتها الخاصة التي أهملتها، وزوجها الطيب الذي تركته من أجل المهنة التي نذرت لها حياتها كلها.

تحمل سيرة “مونو” عناصر مُثيرة كاشفة عن التاريخ الياباني، ففي شهادته الطويلة في الفيلم يكشف أن وعيه السياسي وشعوره بالعدالة الاجتماعية تأسسّا في زمن مبكر من حياته، ربما بسبب تربته ونشأته الفقيرة، كما أنه رفض منذ شبابه النظرات العنصرية التي كانت سائدة في مجتمعه ضد جيران اليابان في الصين وكوريا الجنوبية، وأنه عانى في الثلاثينات من القرن الماضي من رقابة السلطات على ما كان ينشره من مقالات تحذر من توجّه النظام في بلده وقتها إلى الدكتاتورية. وعندما وجد “مونو” الظروف غير ملائمة لممارسة عمله الصحافي في الجريدة واسعة الانتشار التي كان يعمل فيها، قرر تقديم استقالته ليبحث عن تحدي صحفي مختلف، سيجده في مدينة صغيرة.

في مشهد مؤثر، يستعيد الفيلم مع “مونو”، الخطاب الذي ألقاه سياسي ياباني ثوري في الأربعينيات من القرن الماضي. سيكشف الصحافي الياباني أن الخطاب جعله يرتجف من الإثارة مجدداً وأعاده إلى تلك الأيام الصعبة. ستتعرّض صحة الصحافي السابق وأثناء تصوير الفيلم إلى نكسة كبيرة ألزمته سرير المستشفى لأكثر من شهرين، صوره الفيلم فيها على سرير المرض في خيار بدا مُحيراً كثيراً، لحميمية تلك المشاهد الطويلة التي اقتربت من الرجل الذي كان يصارع الموت، والتي كانت صعبة كثيراً على المشاهدة، بخاصة أن تلك المشاهد جاءت مباشرة بعد مشاهد للصحافي المسّن قبل الأزمة، وهو يحاور بحيوية طلبة جامعة يابانية حول مخاطر أن ينسى الجيل الجديد أهوال الحروب. لا تبدو مشاهد المستشفى استغلالية أو مسيئة، لكنها لا تنسجم مع الخيار السردي التاريخي العام للعمل التسجيلي.

على الجانب الآخر وفرت قصة “ساساموتو”، استعادة تاريخية لما مرَّت به النساء في اليابان في القرن الماضي، إذ ضايقت العقلية الذكورية التي كانت مهيمنة وقتها المصورة الشابة في بداياتها، بيد أن تلك الظروف الصعبة ستغذِّي إصرارها على الاستمرار. ربطت المصورة نفسها برموز الحركة النسوية في اليابان وشاعرات شهيرات ووجدت في صحبتهن الطاقة التي أعانتها على مواصلة شغفها. تعيش “ساساموتو” اليوم في بيت للمسنين وبعد سقوطها قبل عامين وكسرها لوركها، يرافق الفيلم شخصيته إلى شقتها في العاصمة طوكيو والتي لاتزال تضم حوائجها، وستكشف من على شرفة بيتها أنها فكرت مرات في الانتحار إذ أن الحياة الطويلة التي عاشتها ضمت لحظات شقاء عديدة.

يبدو الاستعجال واضحاً على الفيلم، والذي مردّه على الأرجح رغبة المخرج إتمام العمل قبل مفارقة شخصيته هذا العالم. لكن المقدور يقع عندما يتوفى “مونو” في بيته في شهر يونيو من هذا العام، فيما حضرت “ساساموتو” العرض الجماهيري الأول للفيلم في مهرجان طوكيو السينمائي. هناك مشاكل تقنية تخص ثبات الكاميرا وانتقالها من اللقطات القريبة والبعيدة، وحركتها حتى في المشاهد الداخلية الثابتة، وهنات أخرى تتعلق بالانتقالات التوليفية بين الشخصيتين. بيد أن الفيلم يوفق عندما يجمع بين الحياتين المختلفتين اللتين يقدمهما، وينسج منها بورتريه مثير، يكشف عبره عن شخصيات وحقبات تاريخية مجهولة.
أولمبياد 1964
اكتسب أولمبياد عام 1964 في طوكيو أهمية رمزية مُهمة للغاية في اليابان، إذ أن البلد ودع مع انطلاقة حقبة الحرب العالمية السوداء، وعزلة دولية حرمته إبان الحرب تلك من استضافة الأولمبياد والمشاركة فيها. يبدأ فيلم “أولمبياد طوكيو” للمخرج الياباني “كون إيشيكاوا” بمشاهد لتهديم بنايات قديمة في العاصمة طوكيو والتي ستحل محلها بنايات جديدة، في كناية للعصر الجديد الذي سيدشنّه الأولمبياد الرياضي. بعد ذلك يتابع الفيلم محطات مهمة من الأولمبياد، أحياناً ضمن تسلسلها الزمني الفعليّ، مُركزّاً على ألعاب دون غيرها، خاصة تلك الشعبية المُثيرة للمشاهدة، والتي تبرز المجهودات الكبيرة للاعبين مثل ألعاب القوى والجمباز.
يُكَمِّل الفيلم مشاهد المباريات الرياضية بأخرى بحثت عن التأثير العاطفي خارج التصوير المباشر للألعاب، فالتقط في عدة مشاهد جميلة للغاية وجوهاً من الجمهور المتنوع الذي حضر الألعاب، متقرباً أحيانا من بعض الوجوه والتي سيقدمها في لقطات مقربة غير شائعة في ذلك الزمان. وفي سلسلة مشاهد، صور الفيلم انتقال الشعلة الأولمبية بين دول عدة قبل وصولها إلى اليابان.
صُور الفيلم وقتها بالكاميرات السينمائية وخضعت نسخته التي عرضها مهرجان طوكيو إلى عمليات ترميم مُكلفة، لتأتي النتائج مبهرة، وخاصة عند مشاهدتها على شاشة السينما الكبيرة، إذ عادت الحياة إلى الألوان الأصلية التي صُور بها الفيلم، وأبرز العرض في الصالة السينمائية جمال الكوادر الجريئة في الفيلم والذي بدا متقدماً كثيراً على مفهوم التوثيق المحدود. يستدعي الفيلم أسئلة عاطفية عما حلَّ بالرياضيين الذين نراهم في عز شبابهم في تلك السنوات، وكيف سارت حياة الإعلاميين الذين ظهروا في سلسلة مشاهد في الفيلم، وهم يغطون الأولمبياد لصحفهم أو قنواتهم الإعلامية، ومنهم من كان يكتب تقريره بالعربية على آلة طابعة، ليركز الفيلم على الكلمات العربية والتي تظهر الواحدة تلو الأخرى على الصفحة البيضاء.
مُصارعة مزيفة
يتشكل أكثر من نصف فيلم “نحن المصارعون اليابانيون” للمخرج “تيتسواكي ماتسو” والذي عُرض خارج المسابقة اليابانية، من مراقبة مصارعيه اليابانيين وهم يستعدون ويمارسون المصارعة الحرة في اليابان في أجواء تشبه التي تحيط هذه الرياضة الترفيهية في الولايات المتحدة، البلد الذي ولدت فيه وتحظى فيه بشعبية لا تتمتع بها في دولة أخرى. يلتقط الفيلم “السيرك” الذي يحيط هذه الرياضة والتي تتقصد الترفيه ويقترب اللاعب فيها من الممثل أكثر من الرياضي. بيد أن الفيلم الذي يصوّر من زوايا مختلفة مباريات عديدة، يُبيِّن بما لا يقبل الشك أن هذه الرياضة والتي تشبه المسرحية الهزلية ويتفق على دور كل لاعب فيها، تتطلب أيضاً مهارات عالية ويخاطر لاعبيها بأجسادهم وإلى حدود كبيرة.
لا يطور الفيلم التسجيلي مُعالجة أو مسّار واضح، يستفيد من الفرصة التي منحت له بالاقتراب من عوالم هذه الرياضة، وكأن الفيلم لا يُدرك الجانب المعتم من هذه اللعبة ومما تخلفه من معالم على لاعبيها المحترفين، وحتى عندما بدأ في نصفه الثاني بالتركيز على لاعبين محددين وذهب معهم إلى بيوتهم وسجّل يومياتهم خارج الحلبات، لم يبلغ الحدة أو المكاشفة المطلوبة، والتي تستدعيها هذه الرياضة بالتحديد، التي تهيج الوحشيات والترفيه في الآن ذاته، وصرنا نعرف من الإعلام أو من أفلام سينمائية أنها تترك آثاراً عميقة على لاعبيها.

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى