دي كابريو يُحذِّر العالم “قبل الطوفان”

أمير العمري

من أهم وأفضل الأفلام التسجيلية التي ظهرت هذا العام فيلم “قبل الطوفان” Before the Flood الذي أنتجه وقام ببطولته – إذا جاز التعبير – النجم الهوليوودي ليوناردو دي كابريو، وأخرجه المخرج الأمريكي فيشر ستيفنز Fisher Stevens. وقد عرض هذا الفيلم مؤخرا في مهرجان لندن السينمائي، وأثار اهتماما كبيرا.

ترجع أهمية فيلم “قبل الطوفان” إلى جوانب عدة، منها أولا: خطورة الموضوع الذي يتناوله، وهو تلوث البيئة، أي ارتفاع درجة حرارة الأرض الأمر الذي يؤثر على الزراعة، ويهدد على المدى القريب بوقوع كوارث إنسانية هائلة أولها المجاعات. صحيح أن هذا الموضوع سبق تناوله في أفلام أخرى، لكن هذا الفيلم يتميز بشموليته في التناول، وجاذبية لقطاته وصوره، ودقة وتوازن بنائه الفني.

وثانيا: وجود شخصية كاريزمية لنجم سينمائي كبير هو ليوناردو دي كابريو، الذي يعتبر المحور الأساسي للفيلم، فهو ينتقل خلال ثلاث سنوات، من بلد إلى آخر، يلتقي المسؤولين والخبراء والنشطاء والأكاديميين والسياسيين، يتدخل بتوجيه التساؤلات، يناقش ويستجوب ويحاول الوصول إلى الحقيقة، ويدعو إلى اتخاذ موقفٍ، وبالتالي فالفيلم ليس محايدا وليس من الممكن أن يكون محايدا فموضوعه الخطير يفرض موقفا محدداً، ويلعب دي كابريو فيه دور “ضمير المشاهد”، أي يتحدث بلسان الإنسان البسيط الذي لا يعرف لكنه يكتشف، ويظل يطرح الكثير من التساؤلات خلال تعمقه في اكتشاف الجوانب المختلفة للموضوع. ويقوم دي كابريو بدوره هذا باعتباره سفير الأمم المتحدة لقضايا البيئة وهو ليس دورا شرفيا بل يتسق مع الاهتمامات الشخصية للممثل الأمريكي منذ طفولته.

وحدة الهدف
من الجوانب البارزة في الفيلم البناء السينمائي المحكم وانتقالاته السلسة بين فصوله المختلفة التي تسبر أغوار الجوانب المتعددة للموضوع المطروح دون أن تغيب عن الفيلم وحدة الهدف في أي لحظة، ودون أن يستغرق الفيلم في مناقشات تشوبها المصطلحات التقنية، رغم الاستعانة بعدد من الخبراء والمتخصصين في قضايا البيئة وغيرها، فتدخل دي كابريو بالأسئلة والتعليق، يجعلهم يعرضون القضايا المعقدة ويتناولون ما يواجهه الكوكب الأرضي من تهديدات، في بساطة ووضوح دون أن يخل هذا بالموضوع أو يضرّ بالمادة المصورة، بل يعمل على تقريبها من أذهان المشاهدين.
ويتميز فيلم “قبل الطوفان” أيضا بعدم السقوط في التكرار، فهو يقدم في كل مشهد من مشاهده المتعددة (يقع الفيلم في 95 دقيقة) الجديد المثير للتفكير، مع جاذبية واضحة في السرد، وفي طريقة تعاقب الصور واللقطات التي يتم تطعيمها ودعمها بالبيانات المكتوبة على الشاشة، وبرسوم الجرافيكس العديدة، والآنيميشن، والصور الفوتوغرافية، واللوحات، والمواد التسجيلية المأخوذة من التليفزيون أو من الأرشيف.
من أهم ملامح هذا الفيلم المركب أنه يربط بين شخصية بطله الشهير دي كابريو وحياته الخاصة وذكرياته المستمدة من طفولته من جهة، وبين الموضوع الذي يتناوله الفيلم والذي هو مثار اهتمام دي كابريو منذ أكثر من عشرين عاما من جهة أخرى.
ويبدأ الفيلم وينتهي بلوحة الفنان التشكيلي الهولندي “هيرونيموس بوش” “حديقة السعادة الفردوسية”، التي تجسد صورة خيالية بديعة للفردوس الأرضي، من خلال تباين الطبيعة وثرائها، وهي الطبيعة التي تتعرض منذ سنوات لأكبر مذبحة في تاريخ الإنسان على الأرض.

يتذكر دي كابريو كيف أنه فتح عينيه وهو بعد طفل صغير، على هذه اللوحة التي كانت معلقة في غرفة نومه، وظلت في ذاكرته إلى أن كبر وأصبح – كما يقول – يدرك ما وقع من تخريب لكوكبنا الأرضي على أيدي الإنسان، ويعود دي كابريو إلى علاقته بالحيوانات، وزيارته في طفولته لمتحف التاريخ الطبيعي، وشغفه بالحيوانات النادرة التي انقرضت حاليا، كما يظهر مع المخرج المكسيكي – الأمريكي إيناريتو جونزاليس الذي أخرج له فيلمه الأخير “العائد” The Revenant، يناقش معه اهتمامهما المشترك في هذا الفيلم بإبراز المناظر الطبيعية، الغابات والثلوج، واستنكار وحشية صيادي الحيوانات الساعين للحصول على الفراء الثمين، ويروي دي كابريو كيف أنهما انتقلا من كندا الى الأرجنتين بعد أن عجزا عن الحصول على ما يكفي من الثلوج التي تغطي الطبيعة في غابات كندا.

هذا الموضوع سيعود إليه فيما بعد بشكل أكثر تفصيلا عند زيارته للقطب الشمالي، وكيف يغوص بقدميه في الثلوج التي أصبحت تذوب بسرعة بينما تجري إلى جانبه، المياه المندفعة بقوة شديدة، والسبب يرجع بالطبع إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض مما يجعل الثلوج تذوب بسرعة وتقل كثافتها كثيرا، بينما يساهم وجودها في تخفيف حدة الاحتباس الحراري.
يتحدث عمدة ميامي مع دي كابريو حول خطورة ارتفاع منسوب المياه على الشاطئ الشهير، وما يتسبب فيه من إغراق الشوارع، ونرى الوسائل المختلفة التي تلجأ إليها السلطات وسكان المدينة لمقاومة هذه المشكلة، بواسطة الأنابيب التي تشفط المياه، والسدود التي تحول بينها وإغراق الشاطئ. وبينما يدين العمدة التقاعس عن توفير حلول للخمسين عاما القادمة، يعارض حاكم ولاية فلوريدا (ريد سكوت) أي إجراءات لفرض قيود على التلوث ونواتج الصناعة، وهو ما يعكس كيف تلعب السياسة السائدة في أمريكا دورا أساسيا في مقاومة التصدي الجاد للمشكلة.
تناقضات السياسة
ينتقل دي كابريو من أمريكا إلى الهند، ومن كندا إلى الصين وإندونيسيا، لكي يحاور المسؤولين والنشطاء في موضوع حماية البيئة. في أمريكا مثلا يلتقي بأستاذ في الاقتصاد في جامعة هارفارد، ويندهش عندما يجد الرجل، رغم انتمائه السياسي للحزب اليميني، يطالب بضرورة فرض ضرائب على استخدام المواد التي تؤدي إلى انبعاث الكربون.
وفي لقطة طريفة مأخوذة من برامج التليفزيون، يظهر الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب يقول إن حكاية التغير المناخي أكذوبة صينية، وإن هناك حاجة إلى ارتفاع في درجة حرارة الأرض (نحن بلد يعاني من البرد!).
وفي مقتطفات عديدة لبعض السياسيين وأعضاء الكونجرس، نرى تعبيرات مشابهة، أما الأستاذ في جامعة هارفارد فيقول أن هناك تجمعا أو “لوبي” قويا داخل الكونجرس يناهض فرض أي قيود على الصناعات، وأن رجل الصناعة الكبير تشارلز كوش، هو من يموِّل هذا اللوبي، أي أن السياسة تخضع للمال.

ويروي كيف أنه تعرض بسبب كشفه لخطورة المنتجات الملوثة للبيئة الناتجة عن المصانع، للكثير من التهديدات بالقتل وللهجاء والسخرية في أجهزة الإعلام، كما تلقت أسرته تهديدات أخرى، وهو يحذر من تقاعس الولايات المتحدة عن اتخاذ خطوات أكثر حزما بالنسبة لتلوث البيئة الناتج عن ازدياد الاعتماد على البترول وغيره من المحروقات.
وعندما يزور دي كابريو الصين يلمس كيف أنها بدأت تعتمد بشكل متزايد على الطاقة الشمسية وأقامت الكثير من محطات توليد الطاقة الشمسية تمهيدا للاستغناء التدريجي عن المواد الضارة. أما في الدنمارك فقد تمكنوا من التخلص بنسبة 100 في المائة من الاعتماد على المحروقات وأصبح توليد الطاقة يتم عن طريق الرياح الشمسية، وتقترب السويد من تحقيق النتيجة نفسها.
في الهند تقول ناشطة من أجل حماية البيئة إن العالم لن يشهد أي تغيير حقيقي ما لم يأتِ أولا من طرف المسؤول الأول في العالم عن تلوث البيئة أي الولايات المتحدة ، وتشرح كيف أنه يتعين على الأمريكيين تغيير أنماط حياتهم الاستهلاكية أي خفض الاستهلاك الهائل، وعدم الاعتماد على المأكولات السريعة (التي تعتمد على المحروقات ما ينتج عنها كمية كبيرة من التلوث) وسنعرف أيضا في مشهد آخر، كيف أن الاعتماد على أكل لحوم الأبقار يعتبر أحد الأسباب الرئيسية في ارتفاع نسبة التلوث، فالبقرة الواحدة تنفث يوميا كمية كبيرة من غاز الميثان الملوث الذي يرفع حرارة البيئة!
لن يتوقف دي كابريو في رحلته المثيرة عند حد معين، فهو سيلتقي بابا الفاتيكان الذي يرحب به ويوافق على توجيه رسالة إلى مسيحيي العالم للتحذير من خطورة الظاهرة ويدعو إلى ضرورة تكاتف الجهود لمواجهتها، ثم يلتقي وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ويشارك في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ ويلقي كلمة مؤثرة، ثم يحضر مؤتمر باريس للمناخ ثم توقيع زعماء العالم على اتفاقاته ووثائقه للمرة الأولى في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم يلتقي الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في البيت الأبيض ليسأله عما تعتزم الولايات المتحدة اتخاذه من خطوات للحد من الظاهرة، كما يظهر في مؤتمر صحفي مشترك مع الأمين العام (السابق) للأمم المتحدة بان – كي مون.
إنه يقوم بزيارة المناطق النائية في الهند وإندونيسيا، ليشهد على حرق بيوت اللاجئين والفقراء لإخلاء الأراضي لاستخراج الفحم في الهند، أو للحصول على الغاز أو زيت النخيل الذي يستخدم كوقود.

ويستخدم المخرج فيلما دعائيا من إنتاج وكالة المباحث الفيدرالية (إف.بي.آي) من عام 1958، يحذر من ارتفاع حرارة الأرض، ويعلق دي كابريو على الفيلم بقوله “لقد كنا نعرف عن وجود هذه المشكلة منذ زمن طويل لكننا لم نفعل شيئا. وعلينا فقط أن نتخيل ماذا كان سيحدث إذا ما أخذنا تلك المخاطر بجدية في ذلك الوقت”.

في الصين التي تعتبر الأسوأ على الإطلاق بل وأسوأ من الولايات المتحدة في موضوع التلوث يرى دي كابريو كيف يقوم الإعلام في الصين – على العكس من الاعلام الأمريكي – بدور بارز في التنبيه إلى مخاطر المشكلة. وفي الهند يعرف دي كابريو أن هناك 300 مليون مواطن هندي يعيشون بدون كهرباء بينما نشاهد في لقطات من أعلى كيف تضاء شوارع المدن الأمريكية ليلا بصورة باذخة، وفي إندونيسيا يدفع رجال الصناعة الرشاوى للمسؤولين ورجال الشرطة من أجل غض الطرف عن حرق الغابات وإبادة الحيوانات، بغرض استخراج الطاقة.

ربما لا تكون القضية التي يطرحها الفيلم جديدة – كما أشرت – فقد سبق أن ناقشها على صعيد مختلف مثلا، الفيلم الذي يظهر فيه نائب الرئيس الأمريكي الأسبق آل جور وهو بعنوان “حقيقة مزعجة”، إلا أن ما يميز فيلمنا هذا كونه يأتي أكثر طموحا وجاذبية، مع تمتعّه بالمزج بين شخصية نجم محبوب هو دي كابريو، وبين خلفيات القضية التي يعالجها الفيلم، كما ينجح المخرج في التعامل عن طريق المونتاج، مع المادة المصورة التي حصل عليها عبر سنوات من العمل، وقام بتوليفها معا في انسجام تام بين شريطي الصوت والصورة، مع خلق إيقاع سريع متدفق ينتقل بسلاسة دون أدنى اضطراب، من نقطة إلى أخرى، ومن بلد إلى بلد آخر، يصور حينا من الطائرات، ثم يهبط حينا آخر، إلى أكثر مناطق تجمع الثلوج خطورة في القطب الشمالي، يصعد الجبل مع بطله، يرصد حياة الناس في أماكن متعددة نائية، داخل المناجم وبين الأحراش وفي المساكن المؤقتة في الغابات. إنه على هذا النحو، وثيقة شديدة الدلالة على العصر الذي نعيش فيه، ومن هنا يأتي سر جماله، وقوة تأثيره أيضا.

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى