«منازل بلا أبواب»: مئة عام من القتل في حلب

سمير فريد

كان طه حسين (1889-1973) يصف الشعب العراقي في ثلاثينات القرن العشرين الميلادي الماضي، أو الثلاثينات الذهبية بحق، بأنه شعب مـــن الشعراء «بين كل شاعر وآخر ثالث فاشل»، ويمكن أيـضـــاً أن نقول أن الشعب الأرمني شعب من الفنانين، والمقصود بالطبع ما يغلب على هذا الشعب أو ذاك، فالشعراء والفنانون موجودون في كل الشعوب. وقد تعـرض الشعب الأرمني إلى أول حرب إبادة في القـــرن العشرين الميلادي على أيدي الجيش التركي في ظـــل الإمبراطورية العثمانية وهي تتهاوى عام 1915، وذلك حين قتل أكثر من مليون ونصف المليون من الأرمن من دون ذنــب سوى أنهم أرمن، وبدوافع وأغراض تتعارض مع كل القيم الإنسانية، مثل كل حروب الإبادة العنصرية.
وأثناء المجازر لجأ ملايين الأرمن إلى بلاد كثيرة في العالم، وبخاصة البلاد المجاورة مثل سورية ولبنان ومصر. وكان من بين المدن التي توجه إليها الأرمن الفارون من القتل، حلب السورية. وهي من أعرق الحواضر العربية، والتي شهدت من بين ما شهدت أول مطبعة باللغة العربية. ثم منذا الذي يحب الموسيقى ولا يعرف «المقامات الحلبية» المنسوبة إلى اسمها؟.

الدمار عقاباً
وفي العام 2015، وبعد مئة سنة من إبادة الأرمن، تعرضت حلب للدمار عقاباً على مشاركتها في الثورة السورية التي بدأت عام 2011 ضد ديكتاتورية الأسد. ومن بين الأحياء التي دُمرت في حلب حي الأرمن الذي يعيش فيه آفو كابرليان مخرج الفيلم التسجيلي الطويل «منازل بلا أبواب» (90 دقيقة)، والذي شاهدته في عرضه العالمي الأول في برنامج «الملتقى» الموازي في مهرجان برلين السينمائي الدولي عام 2016.
نقول فيلم «تسجيلي» التزاماً بالقواعد الأكاديمية لتصنيف أجناس الفن السينمائي، ولكن الفيلم يتجاوز الجنس التسجيلي إلى آفاق رحبة يتماهى فيها التسجيلي مع الروائي، والروائي مع الوثائقي، سواء الوثائق المرئية أم الصوتية. كما يتضمن مشاهد من أفلام روائية من تاريخ السينما. ويبرع الفنان في التوظيف الدرامي لما تتميز به لغة السينما وتمتاز بوجود شريطين للصوت والصورة، فيتم التطابق حيناً، والتناقض حيناً آخر. ويتمكن من صياغة قصيدة من الشعر السينمائي الخالص، ومن سينما ما بعد الحداثة بامتياز.
يربط الفيلم ببساطة وعمق بين ما حدث منذ مئة عام، وما يحدث بعد مئة عام من القتل في هذه المنطقة المنكوبة. وكما أدت المجازر العثمانية إلى لجوء ملايين الأرمن إلى البلدان المجاورة، أدت المجازر الأسدية إلى لجوء ملايين السوريين إلى نفس الدول، وكذلك إلى أوروبا عبر تركيا.

الذاتي والموضوعي
يلتحم الذاتي مع الموضوعي، والخاص مع العام في وحدة عضوية كاملة في فيلم كابرليان الذي ولد عام 1986 في حلب، وتخرج في معهد المسرح في دمشق، ولم يخرج قبل هذا الفيلم سوى فيلم تسجيلي قصير من أربعة دقائق بعنوان «خطوتان فقط إلى…» عام 2012. إنه يصور بكاميرته، وهو المخرج والمصور أيضاً، حي الأرمن في حلب من شرفة منزله منذ عام 2012 حتى عام 2015. كما يصور أسرته وأقاربه وجيرانه في حياتهم اليومية، ويجعل من والدته الشخصية المحورية التي تربط بين أجزاء الفيلم.
وقد كان من المستحيل صنع هذا الفيلم قبل كاميرا الديجيتال، فلم يكن من الممكن أن تسمح سلطات أمن الديكتاتور بتصويره، ولكن حجم الكاميرا الديجيتال الصغيرة، وعدم الحاجة إلى معدات أخرى للتصوير، جعلا الفنان يتمكن من التصوير من دون الحصول على موافقة السلطات، وإتمام الفيلم في بيروت حيث هاجر مع أسرته. ولذلك كان العرض في مهرجان برلين باسم لبنان. ولكل فيلم هوية قانونية تتعلق بحقوق الإنتاج والتوزيع، وهوية ثقافية ترتبط برؤية مخرجه الفكرية. وفيلم «منازل بلا أبواب» لبناني قانوناً، أرمني ثقافةً. الفنان سوري، ولكن سورية متعددة الثقافات، ولغته العربية، ولكن لغته أيضاً الأرمينية التي يتحدث بها مع أسرته كما يتحدث العربية.
ويدرك الفنان ضعف صورة الكاميرا التي يصور بها من الناحية الفنية. ولكن المتلقي يدرك من أول لقطة للتصوير من الشرفة ما يبرر هذا الضعف لاستحالة التصوير بغير هذه الكاميرا، وبذلك يصبح الضعف الفني للصورة مصدراً لقوتها التعبيرية. ومن ناحية أخرى يتحايل الفنان على هذا الضعف بالحركة بين لقطات تجريدية مع لقطات تجسيد الشخصيات، وهي تواجه الموت في كل لحظة، وتقاوم من أجل أن تحيا.

منطق الشعر
ليس هذا فيلماً «سياسياً» عن ثورة 2011 في سورية، ومحاولات النظام الاستبدادي قمعها، ولو بالاستعانة بقوات أجنبية، والطغاة دائماً يجلبون الغزاة. ولكن هذا لا يعني أنه لا يعبّر عن موقف سياسي. فنحن نعرف ما يدور في الواقع من خلال متابعة الأسرة لنشرات الأخبار في قنوات التلفزيون المختلفة. ويعبر المخرج عن موقفه المؤيد للثورة بالمونتاج، وذلك حين نرى لقطة يتقدم فيها ديكتاتور سورية بين حراسه، ثم تعاد اللقطة بالعكس لنراه يتراجع بدلاً من أن يتقدم.
وليس هذا فيلماً «تاريخياً» عن حرب الإبادة التركية ضد الأرمن، ولماذا كانت، ولأي غرض، ولماذا لا تعترف بها تركيا على رغم مرور مئة سنة، ومواقف الدول المختلفة منها. ولكن هذا لا يعني أنه لا يعبر عن تلك الحرب من خلال الوثائق وبعض المشاهد الروائية التي يحولها إلى وثائق بدورها، أو لا يعبر عن موقفه منها، وهو موقف الإدانة الكاملة.

منطق الفيلم – القصيدة
الأصح أن يتم تلقي «منازل بلا أبواب» بمنطق تلقي القصيدة الشعرية، وليس بمنطق تلقي مقال التحليل النثري. السياسة والتاريخ في القلب من رؤيته، ولكن هذه الرؤية تتجاوز السياسي والتاريخي إلى رؤية شاملة للحياة والعالم. إنه قصيدة من «الشعر الوحشي» إذا جاز التعبير، عن مدى القسوة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان في الصراع من أجل السلطة والنفوذ. وذلك بداية من العنوان الذي يشع بأكثر من معنى، وتلك سمة الشعر الأساسية. «منازل بلا أبواب» هي خيم اللاجئين التي لا أبواب لها، وهي المنازل التي تصبح بلا أبواب عندما يهجرها سكانها، وهي أيضاً المنازل التي تصبح أبوابها من دون معنى عندما تكون مستباحة من قوات الأمن. هذا فيلم عن حي كان يعج بالحياة عام 2012 مع بداية التصوير، وكيف خلت منه كل مظاهر الحياة بالتدريج حتى أصبح أطلالاً مهجورة مع نهاية التصوير عام 2015.
ما قبل العناوين لقطات أرشيفية لاستعراضات عسكرية في بلد آسيوي يبدو فيها الجنود وكأنهم دمى آلية غير إنسانية. وبعد العناوين يبدأ الفيلم بمشهد من الفيلم الروائي «التوبو» إخراج ألكسندر جودوروفسكي عام 1970، وينتهي بمشهد آخر من نفس الفيلم. وكان من الضروري أن يكتب على الشاشة عنوان الفيلم، وكذلك على مشاهد الأفلام الروائية الأخرى التي يستخدمها الفنان في فيلمه.
مشهد البداية من «التوبو» لما يمكن اعتباره تعميد طفل ليستسيغ العنف، ومشهد النهاية لمذبحة تتناثر فيها الجثث والأشلاء في طوفان من الدم. وتتقاطع اللقطات الأرشيفية بالأبيض والأسود عن حرب الإبادة التركية ضد الأرمن، مع لقطات تسجيلية من أفلام آرتافازد بيليشيان، وهو مخرج أفلام تسجيلية ولد في أرمينيا السوفياتية عام 1938، ودرس في معهد موسكو، وأخرج أول أفلامه عام 1964. ويعتبر بيليشيان من أوائل المخرجين الذين أزالوا الحدود بين التسجيلي والروائي في ما يعرف باسم مونتاج الأبعاد المتعددة.
كما تتقاطع اللقطات الأرشيفية والتسجيلية مع مشاهد من فيلمين روائيين أوروبيين لمخرجين من الأرمن. الفيلم الأول الفرنسي «مايرنج» إخراج هنري فيرنويل (1920-2002) عام 1991، والذي عبر فيه عن طفولته وصباه عندما هاجرت أسرته من تركيا إلى فرنسا مع الأرمن الفارين من القتل. وفي هذا الفيلم الذي يعرف أيضاً بعنوان «أم» قامت كلوديا كاردينالي بتمثيل دور مايرنج، وقام عمر الشريف بتمثيل دور زوجها هاغوب. والفيلم الثاني الألماني «أفيتيك» إخراج دون عسكريان عام 1992 عن حياة الشاعر الأرمني الكبير أفيتيك إيشاكيان (1875-1957). وعسكريان الذي ولد في الاتحاد السوفياتي عام 1949، وهاجر إلى ألمانيا «الغربية» عام 1978، مخرج ومنتج وكاتب سيناريو ومونتير ومصمم ديكور وأزياء ومصور وممثل ومؤلف موسيقي من أهم الفنانين الأرمن في ألمانيا.
وفي الفيلم مشهد من فيلم روائي من أكثر المشاهد المفزعة ربما في كل تاريخ السينما. وفيه يصنع أحد الحدادين في تركيا حدوة حصان ويخرجها من النار ليتم تركيبها وهي ملتهبة بالمسامير في قدم إنسان، كل ذنبه أنه أرمني.
في فيلم «منازل بلا أبواب» نرى من الشرفة، ومن زوايا محدودة بالضرورة، الحياة اليومية في حي الأرمن والأفراح والجنازات وذهاب الأطفال إلى المدارس ثم إعلان أنها أغلقت إلى حين إشعار آخر. ونتسمع إلى المحاورات حول ما العمل، وهل تكون الهجرة هي الحل، ومتى وإلى أين. تقول الأم حتى الأشجار لم تعد خضراء، ماتت من التلوث. وفي النهاية نراها في مخيمات اللاجئين في بيروت.
«منازل بلا أبواب» يعلن مولد فنان سينمائي شاعر ومفكر، أرمني من سورية، ولكنه مهموم بالإنسان، ومصير الإنسان.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى