الموسوعة الفلسطينية الشاملة إنجاز فلسطيني في زمن ‘الزهايمر’ السياسي

آسيا العتروس

“إن الموسوعة الفلسطينية الشاملة مشروع تأريخي توثيقي تربوي تعبوي حضاري، وهي حكاية وطن مغتصب ومهود سطت عليه العصابات الصهيونية تحت أنظار العالم عبر سياسات التطهير العرقي. وهي حكاية شعب عربي اقترفت بحقه المجازر والمحارق فذبح وشرد وشتت في المنطقة والعالم. وهي حكاية تاريخ يجري تزييفه. وحكاية حضارة وتراث عربي عريق يجري محوه لصالح تاريخ وتراث صهيونيين”.

بهذه الكلمات قدم السجين المحرر المناضل والباحث والمؤرخ الفلسطيني نواف الزرو مشروع الموسوعة الفلسطينية الشاملة التي استوجبت من صاحبها ربع قرن من الجهود والبحث والتوثيق والتدقيق والشهادات بشأن واحدة من أسوأ التجارب الاستعمارية والتصفية الجماعية المستمرة منذ أكثر من قرن.

لم يغفل عن ذكر قرية أو مدينة أو حارة فلسطينية، ولم يترك خارطة لم يسجلها، ولم يسقط من حساباته بيتا هدم أو جدارا أزيل أو حكاية فلسطينية تناقلتها الأجيال المتعاقبة في فلسطين حتى لقب بأنه موسوعة بشرية متنقلة.

ولاشك أن في هذه الكلمات ما يكذب «نبوءة» رئيسة الوزراء الاسرائيلية غولدا مائيير «أن الكبار سيموتون وأن الصغار سينسون»، فالأكيد أنها كانت تُمني النفس بأمر لن يتحقق.

فبعد 99 عاما على وعد بلفور – الذي منح ما لا يملك لمن لا يستحق – لاتزال فلسطين حاضرة في الذاكرة الفلسطينية والعربية والانسانية حيث لم تنجح كل محاولات طمس وقبر الحق الفلسطيني.

نواف الزرو الباحث والمؤرخ والمناضل والسجين الفلسطيني المحرر أصدر بالتزامن مع هذه الذكرى الأليمة أول موسوعة فلسطينية شاملة ضمنها مسيرة كفاح الشعب العربي الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني، ودوّن معها أطوار ملحمة إنسانية خالدة. فقد كان لا بد من هذه الموسوعة لتكون، ليس شاهدا فحسب على أحداث وجرائم وتجاوزات كانت ولا تزال بلا محاسبة أو مساءلة، ولكن – وهذا الاهم – لتروي للأجيال المتعاقبة حق الشعب الفلسطيني المشروع في الوجود والبقاء على أرضه المغتصبة.

عن الهدف من الموسوعة الفلسطينية الشاملة يقول محدثنا إنها موسوعة خطية نادرة تغطي بالوثائق والمعطيات والشهادات، أهم وأبرز وأخطر المحطات التاريخية التي مهدت لاغتصاب وتهويد فلسطين، كما تغطي مساحة الجرائم الصهيونية في فلسطين على مدى نحو قرنين من الزمن، وذلك منذ ان كانت «الدولة اليهودية» فكرة في رأس نابليون بونابارت، ثم تبناها قادة ومفكرو الغرب الاستعماري، الى ان تحولت الى حقيقة على أرض فلسطين عبر سياسات التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، والمجازر الجماعية وسياسات التدمير الشامل للتاريخ والتراث والحضارة العربية الاسلامية في فلسطين.

ويضيف الباحث نواف الزرو أنها تغطي مسيرة الكفاح اليومي والصمود الأسطوري الشعبي الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني ومن وقف ويقف وراءه.

وتتكون هذه الموسوعة من مجلدين كبيرين يشتملان على مقدمات تحليلية و27 بابا، ونحو 107 فصول تتكامل كلها في تقديم لوحة بانورامية شاملة لاستراتيجيات الاقتلاع والاحتلال والتهويد الصهيونية، وللهولوكوست الفلسطيني بمضامينه الإجرامية الصهيونية، وكذلك تغطي بصورة شاملة مسيرة الكفاح والصمود والبقاء العربي الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني.

وهي تعود بنا الى ما قبل نحو قرنين من الزمن لتكشف ما خفي من مناورات ومؤامرات وصفقات ووعود سبقت «إقامة وطن لليهود في فلسطين» وإلغاء الوجود العربي والفلسطيني فيها بمضامينه الجغرافية والبشرية والتاريخية والحضارية الثقافية التراثية والدينية الى جانب توثيق وتأريخ ما جرى في فلسطين من تطورات وأحداث غيرت وجه فلسطين والمنطقة.

• صرخة في زمن «الزهايمر» السياسي

ماذا تضيف الموسوعة للمشهد السياسي والفكري والثقافي الفلسطيني والعربي؟

يقول محدثنا إنها تسعى الى الابقاء على الذاكرة الفلسطينية العربية حية متأججة في وجه كل محاولات التغريب والنفي والاستلاب والالغاء والحفاظ معها على الذاكرة الوطنية الفلسطينية والقومية العربية.

وهي أيضا حكاية حقوق مشروعة يجري شطبها بالقوة الغاشمة ولكنها تحكي بالمقابل حكاية هذه المسيرة التاريخية الكفاحية التي لم ولن تتوقف للشعب العربي الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني حتى لا يعم النسيان، الزهايمر السياسي والوطني والقومي.

وهي بالتالي تأتي لتشكل مرجعا موسوعيا معززا بالوثائق والشهادات والمعلومات ولتحكي القضية والتاريخ لتكون في متناول اليد على اوسع نطاق ممكن. فهي للمكتبة الوطنية الفلسطينية العربية، وهي للذاكرة الوطنية القومية تحرسها في اطار حرب الذاكرة، وهي للأجيال الفلسطينية والعربية لتنتقل من الجد الى الابن فالحفيد.

• ماذا في الموسوعة؟

يقول محدثنا إن المجلد الأول يقدم استراتيجيات الغزو والاقتلاع والاحلال والتهويد الصهيونية وفيه ثلاث مقدمات و14 بابا و51 فصلا كما يلي:

1— مقدمة أولى لتوثيق المحرقة “الصهيونية”.

2— مقدمة ثانية: صناعة رواية صهيونية على أنقاض فلسطين.

3— مقدمة ثالثة: كي لا ننسى..

ويتضمن الباب الأول وثائق – وعود – تعهدات ومؤتمرات استعمارية، ويشتمل على ستة فصول تجمع رسائل ووثائق وقرارات صهيونية ويحتوي على قرارات مؤتمر بازل الصهيوني سنة 1897، ورسالة هرتزل إلى السلطان عبدالحميد، ومذكرة هربرت صموئيل إلى الحكومة البريطانية بشأن وضع فلسطين بعد الحرب، ورسالة وايزمان الى اللويد جورج (1919)، ومذكرة المنظمة الصهيونية إلى مؤتمر السلام في باريس، ومذكرة الاتحاد العالمي لعمال صهيون 1921، وبرنامج بلتيمور (1942).

أما الفصل الثاني فيشمل وثائق ووعود بلفورية مهدت للنكبة وشرعت السطو الصهيوني على فلسطين.

كما يحتوي على ملخص مكثف لبعض الوثائق التاريخية المهمة، ومنها وثيقة كامبل بنرمان، ومعاهدة سايكس بيكو 1916، ووعد بلفور، ومؤتمر سان ريمو، وصك الانتداب على فلسطين، ولجنة بيل والطرد، وقرار التقسيم والحقيقة الضائعة، ليمتد الى التواطؤ البريطاني مع المشروع الصهيوني ومنه الى السياسات الأميركية وتبني باراك أوباما للرواية الصهيونية والاستراتيجيات الصهيونية.

وعن اهتمامات الموسوعة بالحاضر الفلسطيني يقول الباحث نواف الزرو إنه أفرد ملحقا خاصا للأحداث بين 1967 – 2016 ضمنها استراتيجية الاغتيالات والتصفيات والاعدامات الميدانية، وتراث من الادبيات الاغتيالية الصهيونية، وصولا الى ازمة اللاجئين الفلسطينيين – البدايات والخلفيات – التطهير العرقي والتهجير الجماعي، وحق العودة في القرارات الدولية ومشاريع التوطين والشطب الاسرائيلي وسياسات الديموغرافيا والابرتهايد والترانسفير في فلسطين 1948 ودور فلسطينيي 1948 في الانتفاضة، وانتفاضة الاقصى والاستقلال، الى جانب أوراق القوة الفلسطينية المنسية والكفاح الشعبي وحكايات بلعين وبيتللو وعورتا وأخواتها الفلسطينيات، فضلا عن غزة أرض المحرقة والصمود وحروب الابادة الصهيونية.

• القضية الفلسطينية: أي مصير؟

بعد 25 عاما من الجهد والتوثيق أمكن للموسوعة الفلسطينية الاولى أن ترى النور لتشهد على نضالات وتضحيات شعب آمن بقضيته التي كانت حتى وقت قريب تتصدر المحافل الدولية والاقليمية وتصنف على أنها القضية العربية الاولى قبل أن تتراجع على سلم قائمة الاولويات وتغيب عن الاهتمام الاعلامي والديبلوماسي لتزيد صراعات الاخوة الاعداء وانقساماتهم في تعقيدات وقتامة المشهد وتمنح عن وعي أوعن غير وعي سلطات الاحتلال السياسية والعسكرية الارضية المطلوبة لمواصلة مشاريع الاستيطان والتهويد والتهجير والتشريد، في ظل ضعف وانحلال الموقف العربي التائه بدوره في مواجهة التحديات والتحركات الشعبية المتطلعة للعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة.

بهذه الموسوعة الشاملة يكون نواف الزرو الذي يصفه المقربون منه بـ “الموسوعة المتنقلة”، أعاد للذاكرة الفلسطينية المغيبة الموقع الذي يفترض أن تتبوأه، ولكنه ـ وهذا الاهم – يعود ليدفع بنا للتساؤل، لا عن مصير القضية الفلسطينية، فللقضية شعب يرعاها تماما كما أن للبيت ربا يحميه، ولكن للتساؤل عن مصير أمة أضاعت البوصلة وتوشك أن تضيع معها أجيال كثيرة في غمرة انسياقها وراء الحديث عن «المؤامرة الكبرى» التي تعرضت لها في فلسطين وتتعرض لها اليوم في العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن والسودان وغيرها .

ويخلص نواف الزرو إلى أن «وعد بلفور» لم يكن ليرى النور ويطبق على أرض الواقع في فلسطين لو تحملت الأمة والدول والأنظمة العربية حينئذ مسؤولياتها القومية والتاريخية. ولم تكن فلسطين لتضيع وتغتصب وتهوّد لو تصدى العرب للمشروع الصهيوني كما يجب. ولم تكن فلسطين لتتحول إلى «وطن قومي لليهود» لو ارتقى العرب إلى مستوى “الوعد والحدث”.

وإذا كان شاعر فلسطين إبراهيم طوقان تحدث عن المؤامرة اليهودية بقوله:

منذ احتللتم وشؤم العيش يرهقنا فقراً وجوعاً وإتعاساً وإفساداً

بفضلكم قد طغى طوفانُ هجرتهم وكان وعداً تلقيناه إبعاداً

فإن شاعر فلسطين عبدالرحيم محمود يعاتب الفلسطينيين والعرب معا بقوله:

بلفور ما بلفور ماذا وعده لو لم يكن أفعالنا الإبرام

إنا بأيدينا جرحنا قلبنا وبنا إلينا جاءت الآلام

(يدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى