استعادة لحظة انتحار مذيعة أميركية على الهواء

روز سليمان

«تماشياً مع سياسة قناة 40، بعرض آخر أخبار الجرائم الدموية بالألوان، ستشاهدون الآن خبراً آخر: محاولة انتحار» هذا ما قالته كريستين تشوبوك، قبل أن تضع المسدّس خلف أذنها اليمنى وتطلق رصاصة في 15 تموز من العام 1974 بعد مرور ثماني دقائق على بداية الحلقة.
تبدو لحظة جديرة بالتذكّر؛ ليس فقط لأنها تصف لحظة انتحار مذيعة أميركية على الهواء، بل لأنها تُذكّر بآلاف المذيعين حول العالم، ممن يموتون قهراً كل يوم مع قراءة خبر عن ضحية حربٍ جديدة.
اعتمد فيلم السيرة الذاتية «Christine» (115 د.)، الذي بدأ عرضه في الصالات الأميركية الشهر الماضي بالتزامن مع عرض الوثائقي «Kate Plays Christine»، على وقائع من حياة المذيعة (1944). أدت دور البطولة الممثلة ريبيكا هول، من تأليف كريغ شيلوويتش، وإخراج أنطونيو كامبوس.
بحسب لقطات الشريط الترويجي تعيش الفتاة «العذراء» كآبة وصراعات نفسية «احتجاجاً على ارتفاع مستوى الإثارة في الأخبار التلفزيونية». تظهر متشنّجة في علاقاتها مع زملائها ومديرها حتى مع والدتها في المنزل. يركز الفيلم على الأسابيع الأخيرة من حياتها. بشعر أسود طويل وملامح جدية غاضبة وحزينة تظهر الشخصية البطلة في الفيلم قوية، وذكية، وغريبة. يطلب مديرها قصصاً أكثر إثارة لرفع نسب المشاهدة المتدنيّة.
يعتبر فيلم «كريستين» نموذجيًا؛ ففي العام 1974 لم تكن الولايات المتحدة قد أنهت حربها على فيتنام. نزاعات، وعنف، وخوف، واضطراب اجتماعي وأخلاقي وكراهية. الأخبار اليومية التي يقدمها التلفزيون تُصنَع بضربات متلاحقة، مونتاج وسلسلة من الانزلاقات عن الحقيقة. أحداث دولية موجّهة ومقابلات مبرمجة. لم تعد السياسات الإعلامية قادرة على إنتاج ملاحظات، لم تعد وسائل الإعلام بعيدة عن صراعات المصلحة والإثارة والانحياز السياسي المتعمّد. منذ حرب فيتنام (1955 – 1975) وفضيحة «ووترغيت»، تغيرت وسائط نشر الأخبار.
لاحظ فيليب جيلين محرر الصفحة الافتتاحية في «واشنطن بوست» أن ما قدمته الصحافة إلى الجمهور خلال الحرب الفيتنامية كان محدوداً جداً فكتب حينها: «ما حصلت عليه الصحافة من الحكومة أثناء الحرب الفيتنامية كان، بصراحة ودون مجاملة، مجرد هراء». ولاحقاً أصبح الجميع يشكون أن التغطية التلفزيونية لأهوال الحرب الفيتنامية جعلت الأميركيين يقفون ضد الحرب؛ ما دفع الولايات المتحدة للانسحاب.
في المقابل يؤكد توم روزنستل في العام 1994 أن «سي إن إن» مثلا «لم تعد تجتذب المشاهدة الواسعة التي كانت تجتذبها أثناء حرب الخليج» ومعظم الأميركيين لا يشاهدون الأخبار طوال الوقت. وكما حدث في العام 1992 حيث اعتمدت التغطية التلفزيونية لجوع الأطفال في الصومال بوصفها العامل الرئيس في دفع الولايات المتحدة إلى التدخل للمساعدة الإنسانية. والأمثلة لا تتوقف كما في الحرب على العراق العام 2003.
بديكور بسيط وألوان هادئة يحاول فيلم «كريستين» إذاً نقل حياة واقعية عن فتاة كئيبة وذات ميول انتحارية. هي التي تراجعت عن محاولة انتحار بجرعة زائدة في العام 1970، وزارت أطباء نفسيين قبل موتها. لكنها استسلمت أخيراً وانتحرت. أقيم لها تأبين على الشاطئ ونثر رماد جثتها في خليج المكسيك. ومنذ العام 1974 لم يعد بثّ لقطات الانتحار، ليتمّ في حزيران 2016 التأكد من ملكية مدير «قناة 40» للشريط، لتسلمه أرملته لاحقا إلى شركة محاماة كبيرة. لكن في العام 1976 أُنتِج فيلم تلفزيوني ساخر يتناول الصناعة التلفزيونية معتمدا على قصة تشوبوك. وفي العام 2003 كتب كريستوفر سورنتينو قصة استوحاها من تشوبوك. أيضاً في العام 2014 تم إنتاج أغنية غنتها ربيكا فراسر بعنوان «Christine I wish I could have» .
في المقابل يتتبع وثائقي «Kate Plays Christine»، من إخراج روبرت غرين، تحضيرات الممثلة كيت لين شيل للعب دور تشوبوك. نشاهدها تجرّب وضع المسدس خلف أذنها اليمنى مثلاً. ترتدي ثيابها. تجلس في الشارع وتتصرّف بغرابة.
منذ العام 1974 حتى اليوم لم يتغير شيء في الصناعة الإعلامية، دموية متوحشة في كل أنحاء العالم تقتات على زيادة الحروب. لا يزال التلاعب ممارسة يومية؛ ويزداد الأمر وضوحاً فالجميع يريد أن يعمل على قاعدة زمن الحرب. ما سبق ليس غريباً طالما أن ملكية غالبية وسائل الإعلام العالمية تعود لشركات التسويق العام وبالتالي إداراتها من خارج عالم الصحافة. صحيح أن الربح هو هدف الوسيلة الإعلامية لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الخبر يجب أن يُنتِجه منطق السوق. وإلا لمَ خرجت قصة تشوبوك إلى الضوء بعد كل هذا الزمن.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى