لمحات ثقافية

مودي البيطار

لندن أيضاً وأيضاً

> تهجس زيدي سميث بمدينتها الأولى كما هجس جيمس جويس بدبلن. سأل الكاتب الإرلندي أصدقاءه في رسائله من سويسرا ما إذا كانت حوانيت معينة في دبلن ما زالت موجودة، أو إذا كان في استطاعة المرء القفز فوق سور منزل ليوبولد بلوم ( بطل «يوليسيس» الخيالي) في 7 إكِلز ستريت. سميث لا تزال تكتب عن لندن وأهلها وهي في غربتها في نيويورك، وروايتها الأخيرة «زمن الموسيقى الراقصة» تسترجع حياة مراهقتين مختلطتي العرق وتطوّرها. هي المرة الأولى التي تكتب سميث بضمير الأنا، الذي حذّرت طلابها «بغباء» من استخدامه في الماضي.
تلتقي الراوية التي تبقى بلا اسم، تريسي في مدرسة للرقص في كيلبرن، شمال لندن، في الثمانينات. والد الأولى ساعي بريد أبيض لطيف وخامل، ووالدتها جامايكية طموحة علّمت نفسها، وماركسية راديكالية تحب عادات الطبقة المتوسطة. تصبح نائباً في البرلمان، وتنفر من صداقة ابنتها مع تريسي التي تعيش في بيت مهمل قذر مع والدتها الإنكليزية البيضاء. تغدق هذه الألعاب على تريسي وتشتري لها سريراً وردياً شكله سيارة رياضية في غياب والدها الكاريبي السجين. تحلم الفتاة الموهوبة حقاً في الرقص، خلافاً للراوية، بالعمل في المسارح الكبيرة، وتقصد مدرسة للرقص المسرحي في حين تدرس الراوية في الجامعة. تستكشف سميث صداقتهما التي صمدت طوال سنوات البلوغ، والحاجة الملحة الى رفقة الجنس الواحد الداعمة، المتواطئة خلالها، ثم الانفصال وسط التنافس، الغدر وفقدان الثقة.
تستهلّ سميث الرواية بفضيحة غامضة تتعلق بالراوية البعيدة من أسرتها وصديقتها، ولا تفصح إلا بعد تنقّل طويل بين الأزمنة والأحداث. تثابر تريسي وحدها على دروس الرقص، لكنّ الراوية تحرص على تمضية بعض الظهر وهي تشاهد معها أشرطة فريد أستير ومايكل جاكسن. تفتقر الراوية الى الطموح والثقة بالنفس، لكنها تبقى وفيّة لصديقتها القوية، المجتهدة، الاجتماعية، التي تكذب وتصدّق كذبتها حين تدّعي أن والدها غائب لأنه يعمل مع مايكل جاكسن. تخلو علاقة الراوية بوالدتها والشبّان والدراسة الجامعية من الالتزام نفسه، وتتعمّد إغاظة أمّها حين تختار العمل مساعدة شخصية لنجمة البوب الأسترالية إيميه التي تذكّر بمادونا. تنحصر مهمّتها طوال عشرة أعوام بأفعال روتينية كحجز تذاكر السفر وترتيب إجهاض الحمل غير المرغوب فيه للمغنية الأنانية، الكريمة، الصلبة التي آمنت بأنها تستطيع تحقيق كل ما تريده إذا اجتهدت. تقرّر إيميه في إحدى نوبات الكرم التي تصيبها، بناء مدرسة في بلاد في غرب أفريقيا يستنتج القارئ أنها غامبيا. تستخدم شخصية كلمة «ميتريكس» للدلالة على الاختلاف الكبير لدى مغادرة نيويورك أو لندن الى القرية الأفريقية، فتسرق إيميه الكلمة وتكرّرها بنبرة ظافرة تحتفل بالذات. تعود من إحدى الرحلات الى غامبيا بشاب يعتاد سريعاً حياته الجديدة الباذخة، فتفكر الراوية أنه ربما كان الترف أسهل ميتريكس يعبره المرء. تُصدَم الراوية حين تتزوج هوا الغامبية واعظاً مسلماً جوالاً، فيلفتها لامين، صديق إيميه، الى أن قرار هوا قد يعكس حرية ما. التجوال في البلاد بدلاً من الشعور بالحصار في قرية.
في لندن، تنال تريسي دوراً في مسرحية موسيقية تنام مع بطلها ثم ترميه. تحتفظ بحقد طفولي يستهدف الآخرين كلما خابت، كان هو نفسه ما دفعها الى تدمير سمعة عازف البيانو في مدرسة الرقص. تعجز، على رغم طموحها وقوة إرادتها، عن التغلب على قيود طبقتها، نشأتها وتحصيلها العلمي فيما تتجاهل الراوية موهبتها في الغناء لتخدم مغنّية تعبد نفسها. تراقب إيميه تأخذ رضيعاً من يدي والدته القروية الفقيرة، وتلاحظ وجه المغنية يطفح برغبة جامحة في امتلاكه. تتساءل إذا كانتا، هي وإيميه، أعطت إحداهما شيئاً للأخرى، وتحس حين تنظّم هذه معرضاً للصور بأنها ليست شخصاً بل أحد الأشياء التي لا تكتمل سلسلة رياضيات من دونها. ربما لم تكن شيئاً حتى، بل قناع مفهومي، ورقة تين أخلاقية تحمي شخصاً ما من نقد ما، ولا يفكر به أحد خارج هذا الدور. لا تشعر بالإهانة. اهتمّت بالتجربة التي أحسّت معها بأنها شخصية روائية.
حتى الآن

> انفصلت راشيل كوسك عن زوجها وكتبت حتى الآن ثلاثية عن الطلاق صدر جزؤها الأخير منها «ترانزيت»، عن دار جوناثان كيب الشهر الماضي. أثار تحويلها الخاص عاماً ضجة إعلامية واتُّهمت بالكذب، الغوص في الذات والإساءة الى والد ابنيها.لا تهتم، تقول، بفكرة الحقيقي والروائي وتستخدم كل مادّة في متناول اليد حتى تعرّف بعض من تكتب عنهم الى أنفسهم. أدرك ثنائي أنهما المعنيان حين قرآ عن رحلة إيطالية في مذكراتها «العشاء الأخير». اتصلا بناشرها فحذف كل ما تعلّق بهما في الطبعة اللاحقة. ردّت بالذهاب الى ناشر آخر. الخصوصية؟ ماذا نكتب إن لم نستخدم دراستنا للبشر؟
بطلتها مثلها كاتبة تعلّم الكتابة الإبداعية وأم لولدين انفصلت عن أبيهما. يغيبان في «تحديد» حين تعمل في جامعة في أثينا، وفي «ترانزيت» حين يشغلها ترميم البيت المتصدّع الذي اشترته في نوبة من العزم الغادر. وقع السقف قطع جص كبيرة، هبطت الأرض تحت الأقدام، وانتشرت الحشرات القميئة في الطبقة السفلى. البيت علبة دود كبيرة، قال البنّاء، ووجدت في ما بعد أن الحقيقة تتجاوز وصفه بأضعاف. تجلس ليلاً في مطبخها المظلم وتراقب الجيران في حديقتهم الجميلة مع أولادهم وأصدقائهم الذين يشربون ويضحكون ويتحدّثون بالفرنسية، الألمانية والإنكليزية. تعجب كيف تتعايش حديقتها القذرة المتهالكة مع أخرى نظيفة متسقة: «بدا غريباً أن نقيضين، المنفر والمثالي، الموت والحياة، فصلتهما بضع أقدام وبقيا كما هما لا يتغيران».
تهجس فاي بالتغيير الذي لا يأتي مع إدراكها أنه حدث بالطلاق، وأن نظرتها تغيّرت نحو الأسر التي لم تعرفه. تعود الى منطقة في لندن حيث عاشت مع جيرارد، وحين تلتقيه تجده لا يزال كما كان حتى تظن أنه يرتدي القميص نفسه. احتفظ بأشياء اشترياها، وعَجِب كيف غيّرت الأشياء دائماً وتركها على حالها، وها هما ينتهيان في المكان نفسه. هل تعني عودتها الى النقطة ذاتها أن كل جهودها كانت بلا جدوى؟ لا ينجح تصليح منزلها، ويبدو المشروع الذي يثير عداء الجيران تحتها بعيد المنال. حين تقصد الحلاّق لتصبغ شعرها يقول إن الأفضل تغيير لونه من أسود الى بني أو أحمر لأنهما سيجعلانها تبدو «حقيقية أكثر « وإن لم يكونا لون شعرها الطبيعي.

الكلمات الأخيرة

> نفر سامويل بيكيت من ملاحقة «أولاد الزنا» الصحافيين والنقّاد حين بات نجماً في الخمسينات، لكنه تعاطف مع الأكاديميين والكُتّاب المكافحين لأنه كان منهم. في 1971، لم يستطع إقناع ديردره بير بعدم كتابة سيرته، وثار من افتقارها الى الدقة حين صدرت. احتاط بتكليف الباحثة المسرحية الأميركية مارثا فيزنفِلد بتحرير رسائله لنشرها بعد وفاته، وكان شرطه الوحيد اختيار المقاطع المتعلقة بعمله دون غيرها. قبل رحيله في 1989، منح الأكاديمي البريطاني جيمس نولسن موافقته على كتابة سيرته، وتحوّلت هذه مرجعاً لدى صدورها في 1996.
كان على فيزنفِلد أن تناضل ضد منفّذ وصيّة بيكيت المتشدّد في تعريف المقاطع المتعلقة بالعمل، خط الكاتب الذي كان الأسوأ لدى كُتّاب القرن العشرين وفق خبير في المخطوطات، تنقّله بين الإنكليزية، الفرنسية، اللاتينية، الألمانية والإسبانية في الرسالة الواحدة، والإشارات الغامضة فيها. بعد واحد وثلاثين عاماً من الجهد البطولي، يصدر الجزء الرابع والأخير من رسائل الكاتب الإرلندي الذي بدا مغروراً، معذّباً، جهد ليشرح أعماله ثم تكيّف مع شهرته ونال قبول زوجته الفرنسية سوزان الممتعض لعشيقته باربرا باي.
في «رسائل سامويل بيكيت» الصادرة عن جامعة كمبريدج، آخر الرسائل وآخر الحياة. ذُعر من رحيل أصدقاء كثر، وتابع جسده تعذيبه. خفقان القلب السريع، ارتفاع أصابع القدم وحكاك المؤخرة. لم تلتزم فيزنفلد الشرط المتعلق بنشر ما يرتبط بعمله وحده، ونشرت الرسائل كاملة لتكشف علاقاته الكثيرة، حالات الجسد المحرجة، لكن أيضاً كرمه البالغ مع الأقرباء والأصدقاء والغرباء، علماً أنه منح قيمة جائزة نوبل المالية في 1969 لمكتبة ترينيتي كولدج في دبلن.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى