إيتيل عدنان الدمشقية اليونانية في معرض باريسي

باسل العودات

برعاية وتنظيم معهد العالم العربي في باريس، وبالتعاون الوثيق مع غاليري ليلون، وغاليري كلود ليمون، وصفير زملر، تعرض الفنانة السورية-الأميركية إيتيل عدنان أعمالها للجمهور الباريسي، للمرة الأولى بمعرض فردي شامل.

والمعرض الفردي هذا، والذي يستمر حتى نهاية العام الجاري، يقع عند تقاطع الصورة والنص، الكتابة والرسم، وهما طريقتا التعبير عن نفس اللغة، حيث تُقدّم في المعرض الذي صممه المفوض سيباستيان ديلو، العديد من الأعمال لها بالفرنسية والإنكليزية أدباً وشعراً ورسماً وتشكيلاً، ضمن أربعة محاور رئيسية هي:
النصوص العظمى: عن فتح القراءة ونهاية العالم العربي، وأهمية الكتابة في عمل الفنان والالتزام السياسي.
جبل تامالباي: الذي كانت تراه من شرفة منزل صديقتها في أميركا، وتتأرجح هذه اللوحات بين التجريد والتشكيل.
الجسور-المنفيين: حيث يعرض رحلاتها من نيويورك إلى بيروت، ومن سان فرانسيسكو إلى باريس، بأعمال مستوحاة من هذه الأرجاء.
عالم من الألوان والأصوات: تلك التي اكتشفتها من خلال الرسوم التي تُنقش على السجّاد.

المعرض يؤرخ لعقود من الإنتاج الفني والأدبي لهذه الفنانة المخضرمة، ويتنوّع بين الكتابة والرسم والطباعة على السجاد، ويضم مجموعة من المطويات “الأكورديون” على الطريقة اليابانية، مصوّرة وملونة بالباستيل، تجتمع الكلمة والصورة في تآلف وانسجام، أو تتلاعب فيها بالألوان على شكل سطور تُكتب ضمنها كلمات، بعضها حديث والبعض الآخر يعود إلى سبعينات القرن العشرين، ويضم كذلك رسوماً بريشتها عن الحرب والسّلم والحرية، إضافة إلى رسوم على الورق وعلى خامات مختلفة أخرى استقتها من فن تطريز السجاد الذي اكتشفته في مصر خلال أول زيارة لها في ستينات القرن الماضي، ومن بين المعروضات أيضاً قصيدة للشاعر العراقي بدر شاكر السياب كتبها لابنته، رسمتها بكلمات عربية مُلوّنة، فيها براءة وعفوية.

لا تُصنّف أعمال إيتيل ضمن مدارس ونظريات فنية، وهي أعمال مسافرة مثلها، في الزمان والمكان، من بيروت إلى باريس ثم نيويورك، وتجتمع في معرضها هذا لتضع حصيلة عقود من العمل والإبداع، وتصف هي إبداعها التشكيلي بأنه نوع من الشعر، شعر بصري، قادر على إيصال الصوت والمعنى.

وُزِّع المعرض كغرف، ففي الأولى توجد النهاية العربية، وفيها تسلط الضوء على الحروب ودائرة الموت المحيطة بالشرق الأوسط، والحلول الثورية والعسكرية، والسلام، وقبول الآخر.

وفي الثانية كانت الجبال الموضوع الأساس، الذي تعتبرها معجزة صغيرة من التوازن، وإعلان حب للكون، وفي الثالثة كان المنفيون هم الأبطال، من رحلة منفاها، وسفرها، بحثاً عن الذات، وفي الرابعة كانت عوالم الألوان والأصوات، ونسيج من الثقافات واللغات.

وعن أعمالها قال الكاتب والشاعر عيسى مخلوف “كل هذه الجبال والتلال والوهاد، البحار والخلجان والشواطئ، كلها، في عيني إيتيل عدنان، أشرعة لسفر ملون في الذات والطبيعة. يكفي أن تحمل بيدها أنابيب الألوان الزيتية، تضغط عليها بأصابعها، وتفرغ عيّنات منها فوق سطح القماشة، حتى تولد المفاجأة. المشهد الطبيعي في لوحتها مكتف بذاته ولا يحتمل عناصر أخرى. تغيب الشخوص كليا عن أعمالها. وتبدو تلك الأعمال كالحديقة اليابانية التي لا ينظر إليها إلا من الخارج. وحدها العين البصيرة تطأ أرضها وتحلق في فضاءاتها”.

ولإيتيل العديد من الأعمال الأدبية، ونشرت عشرين كتاباً بالفرنسية والإنكليزية، شعراً ونثراً، وعن علاقة الكتابة بالفن والرسم عندها، قال مخلوف “تتحرّك لوحة إيتيل عدنان في موقع آخر غير الذي تتحرك فيه أعمالها الأدبية، بينما يحضر لبنان الحرب الأهلية في روايتها “الستّ ماري روز” (1977) أو في كتابها “يوم القيامة العربي” (1989)، وبينما تحضر أحداث التاريخ المعاصر في شعرها، من فلسطين ولبنان إلى سوريا والعراق، كاشفة عن وجه المبدعة الملتزمة، يغيب هذا المنحى بصورة عامة عن أعمالها الفنية. عندما ترسم، تنتصر لجانب آخر في نفسها، لوجه آخر من وجوهها، هو الوجه الذي يلتفت إلى الطبيعة وعناصرها، الوجه الذي يقبل بحب على العالم”.
لا يبدو على أعمال إيتيل التأثّر بالعمر، فهي ترسم بروح شابة مُتّقدة، وتكتب بنضارة ربيع العمر، وتقوم بالعملين معاً بحرية وانطلاق كعصفور يبحث عن حرية، وتُقدّم أعمالاً مسافرة، لا يُعكّرها الزمان، ولا الذاكرة.

ويقول مخلوف “تغيب الشخوص كلياً عن أعمالها، وتبدو تلك الأعمال كالحديقة اليابانية التي لا يُنظر إليها إلّا من الخارج، وحدها العين البصيرة تطأ أرضها وتحلّق في فضاءاتها، وهذا ما يميّزها عن الحديقة الأوروبية أو الحديقة في الإسلام، كما عهدناها، مثلاً، في “جنّة العريف” في غرناطة، لا أثر لشيء في اللوحة من خارج المشهد إذن. لا شيء يعكّر صفوَ اللوحة حتى توقيع الفنانة.. وهل تحتاج اللوحة إلى توقيع ممّن تتماهى مع المشهد الذي ترسمه، وهو، على نحو ما، صورتها الشخصية”.

والشاعرة الفنانة إيتيل عدنان، وُلدت في بيروت عام 1925 من أب سوري دمشقي وأمّ يونانية، وعاشت ضمن تنوّع عرقي وثقافي سليم، وكان والداها يتكلمان مع بعضهما باللغة التركية، وأمها تتكلم معها باليونانية، وكان الناس في بيروت يتكلمون معها بالعربية، وفي مدرستها بالفرنسية، ودرست بالجامعة بالإنكليزية، فتحدثت كل هذه اللغات بطلاقة، وألّفت أولى قصائدها باللغة الفرنسية في سن العشرين، وصارت خريجة جامعات السوربون، ثم بيركلي وهارفارد، ودرّست الفلسفة من العام 1958 ولغاية العام 1972.

اشتركت بحملات في كاليفورنيا ضد حرب فيتنام، وحروب أخرى، كحرب الجزائر والحرب اللبنانية حيث كانت تقيم في لبنان في العام 1970، قبل أن تغادر إلى ولاية كاليفورنيا لتحصل على اللجوء هناك.
كل ما هو طفولي يظهر في تخطيطات إيتيل عدنان
تنتمي عدنان إلى جيل لا يستطيع فصل السياسة وهموم البشر عن همّه الشخصي، فهي لم تتردد فيما مضى بتوجيه النقد للعالم العربي، في شعرها، الذي ينطق بلغة كونية فلسفية لا عرقية، وتتحدث عن كفاح الإنسان ضد الحروب والظلم، وفي لوحاتها، التي تصوّر فيها الجمال والسلام والتفاؤل، وكتبت رواية “الست ماري روز” (1977) باللغة الفرنسية عن الحرب الأهلية اللبنانية التي شهدتها، وفازت بجائزة جمعية الصداقة الفرنسية العربية، وأدانت الإمبريالية والوحشية في ديوانها “بحر وضباب”، وساندت الثورة الفلسطينية شعراً ورسماً، ومؤخرا عبّرت عن تأييدها للثورة السورية، لأجل تحول ديمقراطي يصون كرامة البشر وحرياتهم.

وتقول في لقاء سابق عن وضع العالم العربي “لقد كان العالم العربي برمَّته في أيدي أنظمة استبدادية، تُعتبر في غاية الفساد، ولا تريد الرحيل ببساطة، لأنَّها مترسِّخة في البنى الهيكلية وذلك أيضًا بسبب الدعم الذي تتلقاه من الخارج، وبناءً على ذلك فإنَّ المشكلة لها وجهان، إذ أنَّ كلَّ بلد لديه مشكلاته المحلية ويعتبر نفسه بالإضافة إلى ذلك معرَّضًا لتأثير القوى العالمية، وعلى سبيل المثال سوريا التي تحكمها حكومة فاسدة منذ أكثر من أربعين عامًا؛ كانت الأوضاع هناك على وشك التحسّن حيث قامت ثورة ما تزال مستمرة، ولكن النظام مع ذلك يرفض بشدة إجراء أيّ إصلاحات، روسيا والصين تساعدان النظام السوري، وصحيح أنَّ بإمكان الشعب السوري المسكين أن يثور على حكومة بلده، ولكنه لا يستطيع بمثل هذه السهولة أن يثور على روسيا والصين، ولذلك فإنَّ الدول العربية غير متحرِّرة لا من حكوماتها ولا من بقية حكومات العالم، وهذا وضع مأساوي”.

وقال عنها الشاعر الأميركي روبرت بلاي “إن موهبة الشاعر السويدي توماس ترانسترومر تكمن في إدراكه متى يتوقف عن الكتابة ليتردد صدى البلاغة في هوامش القصيدة، شأنها شأن النغمات الموسيقية، ويتراءى لي أن عدنان تَنعم بالموهبة نفسها، لا تصوغ المقطع الأخير كي يُعبِّر متعالياً عن حكمة أخلاقية، وإنما تتيح للقارئ فرصة لإتمام ذلك المقطع المتواري عمداً”.

خلال رحلة حياتها، ترجمت ونشرت في العديد من البلدان، كما عرضت أعمالها الفنية المختلطة في لندن ونيويورك، وفي متحف الفن الحديث في الدوحة بقطر، واقتنيت أعمالها في العديد من المتاحف، ومن كتبها الأخيرة “سماء بلا سماء”، و”باريس عندما تتعرى” و”قصائد الزيزفون”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى