حساسيات جديدة في الشعر العربي: عندما تنحاز أنا الكتابة إلى توقيع الإدانة باسم آخرين

عبد اللطيف الوراري

يمكن للقارئ أن يكتشف وسط هذا المناخ من اليأس والاغتراب حينا، ومن السوداوية والشعور بالعبث واللاجدوى حينا آخر، مجاميع جديدة لشعراء غاضبين أتوا إلى هذا العالم ووقفوا على صور فجائعه وسحب سمائه الملبّدة بالشك والرماد. وهم، بهذا المعنى، أبعد من أن يكون حضورهم تعبيرا عابرا عن موجة جديدة يلحقها بعضهم بـ(الموضة)، ويُكرّسها قَدْحا أثناء حديثه عنهم.
فقد أبان عدد غير يسير من هؤلاء الشعراء، من خلال اجتهاداتهم واقتراحاتهم النصية، عن مدى وعيهم باشتراطات الحساسية الجديدة، فانحازوا إلى شعريّتها المختلفة التي تقوم على تنوُّع الرؤى وتمايزها، وتكشف عن تحوُّلٍ في الحسّ الجمالي، وفي مفهوم الذات والنظر إلى العالم وفي أدائية التعبير الفني.

ميليشيا شعرية

منذ نحو عامين، وأنا أنظر بمزيج من الإعجاب والسؤال إلى جماعة شعرية عراقية متفرّدة ارتبطت بمشروع واعٍ ومُفارق أطلقت عليه (ميليشيا الثقـافة)، ولم يكن ذلك إلا ردّا على عالم الخراب واللامعنى الذي كان يخيم على سماء العراق ويدبّ في أرضه. تألّفت الجماعة من الشعراء: مازن المعموري، وكاظم خنجر، وعلي ذرب، ومحمد كريم، وأحمد ضياء، وعلي تاج الدين، ووسام علي، وأحمد جبور، وخالد الشاطي وسواهم. لنقُلْ إنّه صوت جيلٍ رافضٍ وساخطٍ قلبا وقالَبا، وينمو باستمرار كلائحة اتِّهام عريضة.
لم تلفتني الجماعة بنصوصها الشعرية، وإنّما بطريقة تأديتها لهاته النصوص ومسرحتها في أماكن دموية ولاإنسانية، ثم ببدلاتها البرتقالية حينا، وأجسادها المتفحمة حينا آخر.
سيميولوجيّا، كانت الجماعة تعبر عن مقاومة رمزية وتطلق رسائل واخزة للضمير الإنساني، ليس ضدّ «داعش» الإرهابية فحسب، بل وبقيّة الدواعش في الداخل والخارج ممّن امتهنوا روح الإنسان واسترخصوا وجوده. وبما أن هؤلاء الشعراء في مجملهم ذوو تكوين مسرحي، فقد أسسوا، على نحو بارز، ما يمكن الاصطلاح عليه بالشعر الأدائي، وارتفعوا به إلى اللحظة الوجودية التي يعيشها بلدهم العراق والمنطقة ككلّ، بقدر ما ترفّعوا عن الانتماء إلى أيديولوجيا أو مذهبية ضيقة.
في ديوانه الصادر حديثا، والمعنون بـ«نزهة بحزام ناسف» (دار مخطوطات، 2016)، يضعنا الشاعر كاظم خنجر أمام معنى هذه الميليشيا الشعرية، وشكل رؤيتها القيامية للعالم وطبيعة رسالتها ضدّ الخراب والهمجية. لا يكتب كاظم إلا بلغة الأداء التي تتحرك سرديّا، لكن فتيلها يتحرق بروح الشعر الكثيفة وعباراته المتقشفة والمنقوعة في صور سريالية طافحة بالمفارقة؛ ففي كل سطر، وفي كل مقطع وشذرة تنبعث رائحة الجثث التي عادت للتوّ من الحياة، وهل ثمّة من معنى أشقّ وأوخز للضمير وفي الصميم من «موت للبيع»؟
يصرخ كاظم: «متقابلين، نرفع الجثث إلى حوض السيارة؛ أنت تتحدث عن الثقل وقوة الرائحة، وكثيرا عن جمع الأعضاء المتناثرة، وأنا أضع عيني على فوهة العمى وأنظر إليها بعين واحدة، وأتفحص زوجتي النائمة، هل ما زالت تتنفس؟ أقود السيارة مثل بناية محروقة تنطفئ وحيدة. حتى النار لا تجد اهتماما تموت على عجل».
وضمن فتية العراق الغاضبين الذين لا يكتبون الشعر وحسب، بل يشفطون به زيت الروح العارم ولا ينتهون حتى يروا صورة العالم كما يكرهونها، فيعاودون الكرّة من جديد، نجد علي ذرب عبر ديوانه: «سأتذكّر أنني كلب وأعضك أيها العالم»، الذي أحدث بـ(عضّته) لغة بارودية تسائل عبث العالم بتعابثها مع كائناته ومشاهداته وتفاصيل يومه الضاجّ. ومثل ذلك يصنع محمود عوّاد في ديوانه «أكزيما»، والمسدّس الذي طالعنا منذ الغلاف بألوانه الفاقعة، وأربكنا بجدّ، لم يكن يعمل؛ فقد ترك لهذا الشاعر الساخط أن يتصرّف بكياسة المخيِّلة، وإلا أتت (المفرامة) على بقيّة الرؤوس. من الأول يصل إلينا السعال مثل خيط حقيقة جارح، ثُمّ دفعة واحدة يحدث هذا المطر الوبيل: دم، دم، دم..
ماذا بوسع شاعرٍ في مقتبل الحياة أن يفعل بصدد هذا الموت الكبير. إنّه يسخر عبر شذرات ناتئة وممضّة، وينقل من حُمّى المعارك الرخيصة شهادة صارخة بالصمت، والهدف: «تخفيف حموضة رعب المستقبل»؛ لأنّ الفهرس هو نفسه منذ قرون. وبعد، يكفي أن نقرأ هذا الفصّ من الـ(أكزيما) بعافية: «تمرٌ عراقيٌّ معاصر/ تسقط تمرة نأكلها/ في المساءِ نقصُّ من أجسادنا قطعة/ ونسدُّ فراغها/ مثل هذا المشهد/ تكرر مراتٍ عديدةٍ/ إلى أن انتبهنا/ أنّنا منذ النخلة الأولى/ ونحنُ نملأ السلال باللحم وندفعها إلى السوقِ. بهذا نكون قد ابتكرنا نوعا جديدا من التمر».

شظايا الحرب وشظايا الذات

كما يعنيني أن أقرأ اليوم لشعراء وشاعرات من سورية، لأنّ الأمر يتعدى أن يكون فضولا لقارئ عاديٍّ، وإنّما هو انتباهٌ واعٍ يتنامى عندي بأنّ ما يكتب هناك – في تلك البلاد يأخذ جملة الشعر العربي إلى حمّامٍ آخر، بعد الدرن الكبير الذي علق به وأفسد عليه رؤيته. فما يُكتب تحت القصف أو يُصاب بشظاياه الخطيرة يجد صداه العميق في روح الشعر التي باتت خدرا مع كثيرين.
ضمن هؤلاء السوريّين، أقرأ شعر وداد نبي عبر ديوانها: «الموت كما لو كان خُردة» (دار بيت المواطن للنشر والتوزيع، 2016). لا أخفي هنا إعجابي بما تكتبه وداد التي كنت أجهلها قبل هذا الوقت؛ إذ تأخذ الشعر إلى مكمنه ببساطة مدهشة وشفافية أخّاذة ورؤية ساخرة ومتهكمة لامرأة «تركل العالم بقدمها».
الحبّ، الموت، الحرب تكاد تكون هذه هي أهمّ الثيمات الشعرية التي عاركتها هذا الشاعرة السورية وشحنتها بخبرتها وغضبها مثل سالفتَيْها فروغ فرخزاد وسيلفيا بلاث، وهي التي نقرأ لها قصائد بعناوين مفارقة: «يحبُّني عشرون رجلا» و»قلبي المُتّسخ بالحبّ» و»قبل الثلاثين بقليل.. قبِّلْني».
كما للمكان داخل الديوان سلطة رمزية، بحيث أن ذات الشاعرة تعيد تأويل علاماته داخل توتُّر المرجعي والمحلوم به، فيكون ما ترغب في إنجازه بفعل الخطاب سلطة مضادّة بانية تعيد تسمية المهمل والمنسيّ. تكتب: «العتمة/ تنمو في المنازل المهجورة/ كعشب نيسان/ حيث المكان مُضاء بالذكرى».
وعبر ديوانها «آخر سكان دمشق» (مركز التفكير الحر، 2016)، تُعلّمك بسمة شيخو أن تواظب لقراءة شعر امرأة حزينة من دمشق؛ من حاضرة الدنيا التي ذهبت ضحيّة أطماع السخف الإنساني. رُبّما قلت إن بسمة هي شهرزاد الشاهدة التي تسرد حكاية المدينة، ولكن لا أحد يرغب في سماعها، أو على الأقلّ إيجاد الأعذار لحبكتها؛ وهذا ما يشدّ سرديّاتها إلى لغة شفيفة تتحرك في موشور بطيء من الفرح المؤلم الذي ينطق من تلقاء نفسه بقدر ما يؤذي في الصميم. لغة تسرد، وأخرى تشرد بأصابعها، فيقع من الأولى ما يُنبّه الثانية من غفلتها.
يحدث كلُّ ذلك في ديوانها المسكون بالإنساني. يحدث مُعافى من الأذيّة الرخيصة، بعد أن وجد في روح هذه المرأة الدمشقية ذلك التوتُّر الخلاق بين حياة لا تريد أن تنصرف بتهم ثقيلة، وموْتٍ يريد أن يفسد على الأمل طريق الاكتشاف. ولعلّ ذلك ما نكتشفه من عناوين مجموعتها الشعرية: امرأةٌ بكرسيٍّ فارغ، رجل مهزوم، أعتذر منك، نجمة الميلاد، ابتسمُ تحتَ التراب، سنعيش معا، عودوا إلى المراعي، حلمٌ لا يموت. لأنّها تبتسم في وجه آلة الدمار بعناد الأساطير، فهي لن تشيخ.

رؤى قيامية

وفي تونس، ثمّة حركة شعرية مُطّردة ومعبرة يقودها جيل جديد من الشعراء الذين ولّوا ظهورهم للأيديولوجي والسياسي بمعناه الضيق، وانتصروا للإنسان بما يُشبه التزاما جماليّا وأخلاقيّا في آن. وهذه الحركة تُناظر أختها في المغرب، وإِنْ بسماتٍ وجماليّات متفاوتة القيمة والمرجع.
عبد الفتاح بن حمودة في طليعة هذا الجيل كما تعبر عنه مجموعاته الشعرية السبع التي ثابر عليها منذ عقدين. وفي مجموعته الشعرية الجديدة التي أهدانيها، والمعنونة بـ«ما لا تقوله الفأس وتذرفه الغابة» (دار أروقة، 2015) نكتشف اشتغالا على اللغة؛ إذ عمل على تشذيبها من الزوائد، وجعلها تقول ما تعنيه (وما أكثر ما تعنيه) بلا وسيط بلاغي وشكلاني حاجب. ولكن حتى في هذه الدرجة من الانتباه القاسي لعمل اللغة الذي يبدو وكأنّه عمل في الفراغ، يوجد وعي ذاتي لدى أنا الشاعر بقوّة الانتماء إلى العالم عبر تمثيله حسّيا وتسمية المنسيّ فيه عبر بارودية «لعبيّة» خلّاقة تسخر مما حولها بقدر ما تُنبّه وتؤذي في الصميم.
نقرأ في مطلع قصيدته «يوميّات الأعمى»: عندما أجلس إلى عمود كهربائيّ/ أتذكّر سنواتي الملساء/ التي تكوّرت مثل قبضة يد/ عندما أجلس إلى طاولة خشب/ أتذكّر الأشجار والغابات المصفقة في الريح/ ودنان الخمر التي شربها الحطّابون/ مُطْلقين فؤوسهم بضراوة في الجذوع…».
ويكشف حسن بولهويشات في «قبل القيامة بقليل» (دار مخطوطات، 2016)، شاعرا خبر مضايق اللغة وأخذ مجازاتها إلى ناحية الدفء والعفوية حينا، وتخوم القسوة والتوحُّش حينا آخر. ولهذا، نجد أن نبرة أنا الشاعر تخفت وتصعد بحسب تلفُّظات الدلالية التي لا يعنيها من العالم سوى «تقشير الأفكار بسكّين مستور».
يكاد يغدو، هنا، نص مثل «لم يعد هناك من سبب لأصير شاعرا» بمثابة مانيفستو شعري يبلور اتجاهات الكتابة عند حسن بولهويشات. يُضاف إلى ذلك، ما نلمحه من توتُّرات شعرية المشابهة التي تتغذى على صياغات جماليّة مذهلة تنتبه لحركة المعنى بقدر ما تُحدث في متلقّيها «صدمة الوعي». يكتب: «أفكاري دائما مرتخيّة/ مثل تبّان جدّة/ أستبدل الجمل الاسمية بأخرى فعليّة/ وأرفع إِيقاع الصعود إلى الهاوية/ أقبّل السماء/ برأسي/ من دون أن تتألّم نجمة/ بينما الغراب الأسود الذي ينقر قلبي/ أريده أن يواصل عمله وينصرف».
أما ليلى بارع فهي ليست شاعرة وحسب، أي تكتب الشِّعر كشكل من الوجاهة الثقافية؛ بل هي تُكابده وتجهد نفسها فيه، منذ أن أخذت تُكرِّس كتابة الشعر في وعيها بوصفها واجبا وحسب. يتضاعف هذا الواجب عند أُنْثى يصعب أن نحصر هَمَّها إلا في التعبير، فهي أكثر من ذلك تسكن لغتها التي تكتب بها، تُقلِّب الرماد الناعم لكي تنبعث القصيدة التي تشبهها.
في ديوانها الجديد «نشيد الريح» (منشورات سليكي أخوين، 2016) تختبر ليلى بارع أشكالا باهرة من تداعي الحواسّ على نحو يطلق الجسد من عقال المكان بقدر ما يطلقه في الزمان العابر والانسيابي؛ فمُجرّد نظرةٍ في الأسفل تتراءى لنا مأساة. ونظرة أخرى في السماء تتبلور حوافز لبناء سيرة ذاتية نوعية. هنا، مع ما تتطلَّبه صيرورة ذاتها من خبرة جوّانية للحكي، فإنّ ذات الشاعرة تأتي إليها من كتابة متقشّفة وهشّة ولافحة، ولكن- وهو الأهمّ- تؤذي في الصميم، كما في نصّيْها: «محو» و«الدرجة صفر». فالكتابة تمحو، والكتابة التي تتذكّر ليلها السحيق. صوأمام كتابة عبوريّة مثل هذه الكتابة، يتجلى لنا الوجه الرفيع من مكابدة الذات ومعنى البوح بسيرتها على نحو غير خادع، سيرة الوهم كما كتبتها. إنّها أشبه بالغيمة التي تراءت لها فأرعبتها بغرابتها. وليس هذا في واقع الأمر إلا ذريعة ضمن ذرائع أخرى، تحمل أنا الشاعرة على أن تكون مُتمرّدة على الكلمات وقائلة باستقالتها، وتكشف عن رغبتها في أن تعيد إليها معانيها الأولى، سيرتها الأولى. استحالة، لكنّها في منطق الشّعر ليست إلا إمكانا آخر، وَهْما آخر.
في راهننا الشعري، ثمّة كتاباتٌ نوعيّة تستحقُّ أن تروى، ومن بينها كتابة ليلى بارع. ليلى ليست الحزينة وحسب، بل الصادقة مع حزنها لأنّها تتعلّم منه باستمرار. ويكفي أن تقول: «غسلتُ قلبي بالضوء/ رغم أنّ القمر كان بخيلا..».

(القدس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى