وثائقي فرنسي يتناول تاريخ الإيروتيكا في السينما

سليم البيك

استطاعت السينما أن تشكّل الإدراك بالجنس لدى المجتمعات الحديثة أكثر من أي فن آخر، حتى أفلام البورنو التي كانت أشرطتها تُتداول بسريّة، والتي صارت اليوم متاحةً تماماً «بفضل» الإنترنت، فلمحدودية انتشارها مقارنةً مع النتاج السينمائي، ولأسباب أخرى، لم تستطع أن تساهم في تشكيل «الصّور الجنسية» بشكل باقٍ كما هي السينما.
أما الأدب، فيبقى، لطبيعة تلقّيه: القراءة، أقل تأثيراً من السينما في تشكيل الوعي الجماعي للناس.
لكن الجنس في السينما مرّ بمراحل، تلميحاً وتصريحاً، منذ السنوات الأولى للسينما، في عشرينيات القرن الماضي، إلى اليوم، وكان حضوره مرتبطاً بشكل جدلي، إذ يؤثر ويتأثر، بالتغييرات التي تطرأ على المجتمع، من حروب إلى ثورات طلابية إلى غيره، كالإنترنت. ولذلك، فأي حكايات تتناول الجنس لا بد أن تتناول، بالضرورة، السينما وتأثيرها في تشكيل الإدراك بالجنس. هذا كان، برأينا، الأساس الذي بُني عليه الوثائقي الشيّق الذي أنتجته مؤخراً قناة «آرتي» الفرنسية الألمانية الثقافية وعرضته، وهو «حكايات السينما – حكايات الجنس»، وقد أخرجته الفرنسية فلورانس بلاتاريه.
تكمن قيمة الفيلم، إضافة إلى بحثه وانتقاءاته الفيلميّة، في المشاركات فيه، إذ كانت لمخرجين سينمائيين كان لواحد من أفلامهم، أو أكثر، تأثير نوعي في الانتقال إلى مساحات أرحب لتصوير الجنس سينمائياً، والحديث ليس عن أفلام بورنوغرافية، تعتمد الجنس كمادة استهلاكية، وليس كذلك عن أفلام تجارية، وهذه الأخيرة تتجنّب أصلاً أي مقاربة صريحة للجنس لسبب يعود لطبيعتها التجارية، بل الحديث هنا عن أفلام هي أعمال فنّية قبل أي شيء.
يبدأ الوثائقي بفيلم «راقصات الفالس» (1974) لبيرتران بلييه، منتهياً بـ «حياة أديل» (Blue Is the Warmest Colour 2013) لعبد اللطيف كشيش، وكلاهما فرنسيان، ماراً بالعديد من الأفلام العالمية المصنّفة ضمن الأفلام الفنية، التي شاركت في مهرجانات سينمائية ونالت معظمُها جوائز فيها، هي أفلام لمخرجين يتعاملون مع السينما كفن قبل أي اعتبار آخر، والحديث كذلك عن أفلام تجرأت على إظهار ، ضمن سياق فني يميّزها عمّا هو الحال في أفلام البورنو، فالأفلام المنتقاة للحديث عنها في هذا الوثائقي، والحديث مع مخرجي بعضها، تتشارك، إضافة إلى كل ذلك، الجرأة في إظهار الجنس كما هو دون تورية.
أما المخرجون المشاركون فهم: الهولندي بول فيرهوفن (Turkish Delight 1973) و (Basic Instinct 1992)، الفرنسي ألان غيرودي (Stranger by the Lake 2013)، الإيطالي بيرناندو بيرتلوتشي (Last Tango in Paris 1972)، الفرنسية كاترين بريّاه (Romance 1999)، الفرنسي بيرتران بونيلّو (The Pornographer 2001)، والفرنسي بيرتران بلييه.
يبدأ المخرجون الحديث بأفكار عامة عن الجنس في الأفلام، ضمن الحكاية، وأساساً داخل إطار الصورة، ما يتم تصويره منه، منتقلين بالحديث من النظريات العامة إلى تجاربهم الخاصة في أفلام لهم كانت علامات بارزة في موضوع الجنس والسينما (هي المذكورة أعلاه)، كما يتكلّمون عن أفلام أخرى، لمخرجين راحلين، أثّرت فيهم وفي كيفيّة تصويرهم للجنس في أفلامهم.
من الطبيعي أن يقول أحد هؤلاء المخرجين بأنّه أراد إظهار الجنس لأنه أساساً محظور، لأنّ «أنا الفنان» يحق لها أن تشتغل على عملها باعتبار واحد هو المعيار الفني لصاحب العمل، دون أي ضوابط أخلاقية ودينية وتجارية خارجية، خاصة إن شعر المخرج بضرورة أن يكون المشهد الجنسي ضمن سياق لحكايته، في لحظة ومكان معيّنين، إذ يكون الفيلم، حكايةً وتصويراً، ناقصاً ما لم تأته المَشاهد الجنسية لحظتها، فتكون بذلك ضمن الحكاية. لا يمكن، ضمن الإدراك الفني للفيلم، إخبار المُشاهد بأنّ الشخصيات: الآن ستمارس الحب، لذلك سنطفئ الإنارة أو نزيح الكاميرا. ولا بأس في ذلك (إزاحة الكاميرا مثلاً) إن كان، فقط، لمبررات ترميزية وبأساليب جمالية لا خصّ لها بضوابط خارجية أو خارج الاعتبار الفني للمخرج.
وانفتحت السينما على الجنس أكثرَ في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فالتعتيم وإزاحة الكاميرا كانتا أساساً التصوير التلقائي للجنس آنذاك وما قبله، يمكن تصوير أعضاء من الجسد، كاليدين والرأس وغيرها، للإخبار بأن ما يحصل خارج إطار الكاميرا، هو ممارسة جنسية، تاركين للمُشاهد مهمّة تخيّل الباقي، فكل ما لا يتم تصويره هنا، يتم حتماً تخيّله من قبل المشاهدين. والانعطافة الأولى في ذلك كانت مع الفيلم الفرنسي «العشّاق» (1958)، من إخراج لـــــــوي مال وبطــــــولة جان مورو. وكان، كي تُصوَّر مشاهد الجنس فيه، من الضروري أن تكون الممارسة بين زوجين فعليين وليس فقط ممثلين، لتخطّي الطابع الفضائحي للمَشاهد.
ولحقت «العشاق» أفلام شكّلت انعطافات جديدة ومتقدّمة في المقارنة معه، أشار إليها الوثائقي كعلامات في تاريخ تصوير الجنس سينمائياً، أبرز مخرجيها هو حتماً الإيطالي بيير باولو بازوليني، الذي وضع نهاية لليوتوبيا الجنسية، كممارسة تنشأ عن رغبة حسية أو عاطفية، ليجعلها، ضمن سياق وحشي سادو- مازوشي، إسقاطاً للممارسات الفاشية في إيطاليا آنذاك، وتحديداً في قمّة أعماله النقدية/السينمائية «سالو، أو 120 يوماً في سدوم»، الذي أُنتج عام 1975، وهو العام الذي قُتل فيه بازوليني من قبل يميني متطرّف كما هو مُرجَّح. والجنس لدى بازوليني، بشكله المباشر والطبيعي، حاضر في معظم أعماله، وتحديداً «تيوريما» (1968)، الذي أشار له الوثائقي كذلك كأحد الأفلام/المَراجع في هذا الموضوع. وقد تزامن فيلما بازوليني مع ثورات اجتماعية في أوروبا، وساهما في التأسيس لثورة جنسية في السينما الأوروبية، وإضافة إلى كل ما ذُكر أعلاه من أفلام، وقبل أن يصل الوثائقي إلى أفلام السنوات الأخيرة، كان لا بد من المرور، إضافة إلى فيلمَي بازوليني، بأفلام أخرى ساهمت في هذا السياق السينمائي/الجنسي الذي ينقل فيلمنا الوثائقي حكاياته، كفيلم «جميلة النهار» (1967) للإسباني لويز بنويل، بأسلوبه السريالي الخاص، وبعده «إمبراطورية الحواس» (1976) للياباني ناجيزا أوشيما، بالأسلوب الحسّي الذي يميّز السينما الآسيوية، منتهياً بالفيلمين الأكثر إثارة للجدل مؤخراً في تصوير الجنس، لا بصرياً وحسب حيث قطع الفيلمان أشواطاً في ذلك عن العديد مما سبقهما من أفلام، فكان الجنس كثيفاً كماً وجريئاً نوعاً، بل حكائياً كذلك في كل منهما: الأول هو «حياة أديل» للفرنسي كيشيش، والثاني هو «نيمفومانياك» (2013) للدنماركي لارس فون تراير، الأول يحكي عن علاقة مثلية بين فتاتين والثاني عن امرأة مهووسة بالجنس.
لا يمكن أن يغطي وثائقي يمتد لساعة كل حكايات الجنس في كل حكايات السينما، ولا حتى الأهم من بينها، فالجنس مقترن بالسينما من بداياته حيث بالكاد نرى قبلة خجولة في الأفلام الصامتة لتشارلي تشابلن وبستر كيتن، إلى فيلم «حب» (2015) للأرجنتيني غاسبار نوي، الذي كان أكثر بورنوغرافياً من كونه إيروتيكياً، بخلاف كل ما سبق ذكره من أفلام هنا، حيث أتت الإيروتيكا في سياقها الحكائي وتصويرها الفنّي.

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى