التشكيلي العراقي عمار داوود: أنا رسّام ملول لا أركن إلى أسلوب

صفاء ذياب

كان لتجربة الفنان التشكيلي العراقي عمار داوود تحولات عدَّة، منذ حصوله على الدبلوم في الفنون التشكيلية في بغداد عام 1979، ومن ثمَّ هروبه من العراق عام 1980 ليستقر في بولندا، التي حصل فيها على شهادة الماجستير في الرسم، وهو يعيد بناء نفسه مع كل مرحلة من مراحله الفنية، فعمل في الكرافيك والرسم والنحت، وكتب في النقد والرؤى الفنية، وصولاً إلى معرضه الذي أخذ مدى واسعاً في الفن التشكيلي «الحلاج وطواسينه» عام 2013، ليقدم رؤى جديدة في لوحته. وهو ما استدعاه للنحت في ذاكرته حين كان يعيش في تكريت وحضوره الدائم لتكايا الصوفية وجلساتهم.
قدَّم داوود أكثر من ستة عشر معرضاً شخصياً، كان أولها في بولندا عام 1982، وأردفه بثانٍ، وكان معرضه الثالث فعام 1988 بعد انتقاله للعيش في السويد، ومن ثمَّ انتقل لأكثر من بلد ليقيم معارض اختلفت في رؤاها وبنيتها:

■ هاجرت من العراق عام 1980، بعد أن كنت معلماً في إحدى قرى تكريت، ما يعني أن وعيك الفني تشكل بعيداً عن العراق وحروبه.. كيف أثر هذا في عملك الفني؟ وكيف أثر هذا الاغتراب في عملك وتقنياته؟
□ تركت العراق قبل شهرين من اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وكان عمري آنذاك 22 عاماً، وبلا شك كان قدري أن أعيش حياةً تتوافر على منغصات وعقبات أقل من غيري ممن بقوا وعاشوا في العراق… دراستي الأكاديمية في بولندا منحتني قدرة أكبر على استخدام الأدوات والتعامل مع المفاهيم المتعلقة بصناعة العمل الفني. المجتمع الفني البولندي المهتم بمنجزات الثقافة البصرية كان وما يزال من أغنى المجتمعات في التوصل إلى منتجات إبداعية عالية القيمة، وخصوصاً في مجال فن الإعلان والتصميم الغرافيكي وسبل التفكير العقلاني والمنطقي فيما يخص وصف التجربة الإبداعية وحيثياتها. كنت وما أزال سعيداً جداً بحصولي على تلك الفرصة الهائلة من الناحية القيمية: العيش في بلد عامر بالمبدعين الجيدين واستثمار زمن من حياتي قضيته في التعلم والعيش والتفكير بحرية. كما أنه لم يكن للغربة ثقل كبير على وضعي النفسي، لقد استثمرت تداعياتها في عملي الفني وحاولت أن أجعلها تلون عالمي الفني: لوحاتي وأعمالي الغرافيكية والمجسمات النحتية.
■ كان لحلقات التصوف والطريقة القادرية تأثير على أعمالك، حتى أقمت معرضك «الحلاج وطواسينه»، ما الذي أغراك في هذه التجربة؟ وكيف قدمت الحلاج برؤاه المغايرة ومشروعه الروحي في هذا المعرض؟
□ منذ سني عمري المبكرة، أيام القراءات الأولى، كنت أصب اهتمامي على الفكر الوجودي ومعطياته، بالإضافة إلى الفكر الصوفي، كنت قد تعلمت الكثير من سارتر وكامو، قرأت كتاب «الإنسان المتمرد» و»أسطورة سيزيف» ثم كتابات سارتر ورواياته وكافكا ودستويفسكي، وتعلمت منهم ومن غيرهم الكثير، بدأت أفكر بما يعتمل في الذات الإنسانية وما تعيشه من معضلات تتمثل داخل الوجدان، ثم انتقلت في ما بعد إلى التعرف على الفكر الصوفي بقراءة فكر الحلاج وشيء من ابن عربي والسهروردي وجلال الدين الرومي، أحببت الطريقة القادرية وأنا ابن 19 عاماً.. أتذكر أنني قرأت كتاب «الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية»، كنت أتردد وأنا أعمل كمعلم في تكريت على مقر دراويشها وقد تركت هذه الزيارات أثراً كبيراً في تشكيل عالمي الداخلي وإنضاج حساسيتي ووجداني الميال بطبعه إلى التصادم مراراً مع الأسئلة الوجودية الصعبة، عن معنى أن يحيا الإنسان ولماذا وكيف… هذه التجارب أسقطت بظلالها المنداحة على المساحة النوعية للمنجز الذي أقوم به، بعد أن تركت أثراً إيجابياً في نفسي ورفعت من مستوى حساسيتي الإنسانية. قدمت الحلاج كمادة لإنجاز أعمالي التي عرضتها في غاليري ميم في دبي، لم أكن أرغب في التعبير عنه بصيغة تقريرية أو وصفية، وقبل كل شيء كنت أحترس من تقديم تأثيرات مناخه الفكري عليّ بصيغة إيضاحية، الذي فعلته هو أن أنجز عملي بطريقة تقدم منهج الحلاج وأسلوبه في التعبير عن نفسه عن طريق بنية المادة البصرية وتقنياتها وما تبثه من قيم تكوينية. وبعبارات أخرى، كنت أريد لعملي أن يشتغل بشكل حر دون أن يلتزم حرفياً بمادة الحلاج الفكرية عن طريق الترميز مثلاً، أو الاستعانة بصور تحيل المتلقي إلى تفاصيل المناخ الفكري الحلاجي. لم أرد لمفرداتي أن تحيل المتلقي إلى الحلاج ذاته، بل إلى الحلاج بصفته موقفا إنسانيا قبل كل شيء.
■ لم تكن فناناً فطرياً، بل نهلت من الأكاديمية والدراسات العليا حتى تمكنت من إعادة ترتيب أدواتك، ما الذي تضيفه الأكاديمية للفنان؟
□ لو تعلم كم أنا ممتن للأكاديمية البولندية التي تعلمت منها الكثير، لقد قضيت فيها ست سنوات، وقد صار بضعة من أساتذتي أصدقاء لي. علاقتي بأساتذتي داخل أو خارج الأكاديمية أضفت على حياتي الإبداعية الكثير من القيم المهمة، لقد تعلمت منهم سبل التفكير المنطقي حول إنتاج الصورة، وكيفية التعامل مع مادة التكوين، وأن يكون الفنان صادقاً في عمله.. والكثير الكثير من القيم الأخرى. الأكاديمية البولندية كانت من أهم تجارب حياتي الدراسية.
■ ما المنطلقات التي يستند إليها الفنان في تجريبه وبحثه عن المغايرة؟ وما مدى الانفلات الذي يمكن للفن من خلاله أن يقدم رؤاه؟
□ الفنان بطبيعته شخص متمرد ومحب للتجريب ويمل من الرتابة، هكذا أراه، ولا أدري إن أصبت فيما أقول، لكنني أعتقد أن هناك حدوداً لما يمكن أن يقدمه الفنان باسم حرية التعبير… لست مناصراً لفكرة أن الفنان يستطيع أن يفعل كل ما يشاء، بل إن هناك الحدود القيمية الأخلاقية وضرورة احترام مشاعر الآخرين.
■ غالباً ما تهتم بالفضاء في لوحاتك، حتى كأن كائناتك تسبح في فراغ لا نهائي.. ما بنية اللوحة التي تسعى لتقديمها دائماً؟ وما التحولات التي طرأت على هذه البنية وفضاءاتها منذ معرضك الأول وحتى الآن؟
□ الاهتمام بمفردة الفضاء جاء مبكراً وضمن أعمالي الأولى في الثمانينيات، حيث كنت أضع فيها شخوصاً تتواجد داخل مناخ العزلة، وفي فراغ، لكنني لم أقف أبداً عند بنية محددة للوحتي، أنا رسّام ملول لا أركن إلى أسلوب ولا إلى محتوى معين، حياتي شهدت عدة تحولات وانتقالات في المكان، لهذا تجدني لا أحب أن أتوقف عند مكان محدد.. أعمالي الأخيرة تجدها عامرة بالأحداث والتفاصيل إلى حد كبير ولدرجة المبالغة. المكان في أعمالي الفنية لا هوية ولا عنوان واضح له، ليس مكاناً هنا ولا هناك، إنه محصلة الأمكنة التي تجمعت ملامحها في ذاكرتي… المكان في أعمالي ليس واقعياً، فهو إما أن يكون سحرياً أو سرياً أو لامعقولاً، المنظور (الذي ندرك به المكان) في هذه الأعمال يتعرض للتخريب في أغلب الأحيان، فلا أميل لتعريف المتلقي ببنيته الفضائية الفيزيقية، بل هي بنية ميتافيزيقية. كما لا يوجد في أعمالي مكان مأخوذ من ذكرياتي، بل مكان متخيل فقط، فلا وجود حقيقيا له، وربما أصبحت سمة المكان في أعمالي بهذا الشكل بسبب عدم تعلقي بأيٍّ من الأمكنة التي عشت فيها، فقد انتقلت ثلاث مرات في حياتي: العراق، بولندا، السويد. فضلاً عن أنه لا توجد لدي فسحة ذهنية أسمح بها للذكريات العاطفية عن الأمكنة التي عشت فيها أن تسيطر عليّ بالشكل الاكتئابي، ربما كان السبب هو تجنبي للإحساس بالصدمة أو الجرح الداخلي الذي حصل عندي بسبب الترك القسري للمكانين الأولين الذين عشت فيهما قبل استقراري في السويد. يصبح المكان أكثر سحراً وجمالاً بعد أن أتركه، وليس في أثناء وجودي فيه، المسافة الزمنية ما بعد تركي للمكان هي التي تحقق سحره وجماله وتأثيره عليَّ، بسبب تفعيلي لنشاط المخيلة التي تضفي على المكان ملامح غير واقعية.
في أعمالي السابقة (فترة التسعينيات) كان الفضاء أو الفراغ يشكل مفردة بنائية مهمة فيها، وقد كان يشبه إلى حدٍّ كبير سؤال هيدغر «هل الفضاء هو ذلك الامتداد المتجانس، الذي لا يتميز أي مكان فيه عن الآخر، المتكافئ في جميع الاتجاهات، ولكنْ غير القابل للإدراك بالحواس؟». أعمالي الحالية لا فضاء مفتوحا فيها، المكان والفضاء فيها يتشكلان كما تتشكل الصور المجزأة في قطع المرايا المهشمة والمتراكمة. من جانب آخر، هناك ثلاث محطات في العقل الإنساني تتمركز فيها جواهر الانعكاس الوعيوي وهو في حالة التفاعل مع المكان وهي كالتالي:
الإدراك الحسي: وهو ما يتحقق من خلال التفاعل الحسي مع المكان باعتماد الحواس الخمس.
الذاكرة: وهي نتاج استعادة ما تم إدراكه حسياً بشكل صور ذهنية واقعية تسجيلية.
الخيال: ينحو الخيال نحو الاستغراق في ابتداع عالم لا واقعي يقيم بنيته التصورية على ما تم له تحصيله من خبرة استمدها من الإدراك الحسي والذاكرة.
■ ترى أن الفن العالمي اليوم يتوجه بخطى حثيثة نحو مبدأ (المشاركة) وليس (التقوقع) وهذه النقطة هي ما تحسبها أساساً لمنهج يُعتَمَد.. كيف يمكن فهم هذه المشاركة؟ وعلى ماذا تعتمد؟
□ أقصد بالمشاركة معنى الانفتاح على العالم، لم نعد اليوم ننتمي فقط إلى التجربة المحلية.. الغرب والشرق يتبادلان التجارب، هم يتأثرون بنا ونحن بهم، وتعتمد هذه المشاركة على مفهوم الوجود الإنساني بمعناه الأشمل، وهو حصول اليقين بأننا نواجه الاسئلة ذاتها والمعاناة الوجدانية ذاتها المتأصلة في ذواتنا منذ ظهورنا على وجه الأرض وإلى يومنا هذا. لقد بدأ فنان اليوم باستيعاب هذا الامر بشكل فلسفي عميق، واستعان بأبستمولوجية تتميز بالشمول والتعقيد، وربما يشهد عصرنا هذا حالة تراكم الأبستمولوجيات وتعددها بدلاً من الأحادية الأبستمولوجية التي شهدتها الحقب السابقة، إذ إن دراسة المعرفة والتعامل مع طبيعتها أو مصادرها أصبح أمراً معقداً جداً، الأمر الذي أثّر باعتقادي على طبيعة عمل الفنان وطرائقه في طرح مفاهيمه الإبداعية وسمات تداوله لمواضيعه في أعماله الفنية.
■ إذا كان الفن في كل مسيرته هو محاولة للتحرر من القيود المختلفة، ما الذي فعلته الديكتاتورية إذن في الفن العراقي؟ وما الذي أكملته الأطر الدينية التي تكبل بها المجتمع العراقي فيما بعد؟
□ يفتح هذا السؤال جرحاً قديماً لم يلتئم بعد في ذاتي، لقد تركت العراق بسبب الديكتاتورية ولم أشعر في بلدي بأي طمأنينة، كنت قلقاً ومتوتراً ووجدت أن استمراري في العيش في بلدي أصبح أمراً لا يطاق. كنت شاباً في سن 22 عاماً، قليل الصبر وذا حساسية عالية، كنت أتوق لتحقيق معنى حريتي كما كنت أراها في صورتها التي رسمتها لها، كنت أريد لنفسي أن تعيش وتمارس وتعمق سمات يقينياتها. وهكذا كنت أرى أيضاً رفاق دربي الثقافي، الأمر الذي جوبه بمناخ تعسفي ديكتاتوري أراد للمشروع الثقافي الوطني العراقي أن يكون داعماً له وإلى حد كبير، واليوم نعيش ضمن أطر ديكتاتورية أخرى، ولكن ذات هوية جديدة.. لم يتغير الحال، فقد بادت حالة كارثية سابقة ليتم استبدالها بحالة كارثية جديدة ستقيد الإرادة الإبداعية المثقفة وستعطل الكثير من المشاريع التي تحتاج إلى الحرية الفكرية لكي تنشط وتغير المجتمع نحو سبل عيش أفضل.
■ يختلف الباحثون في الفن العراقي عن الآباء الحقيقيين له، بعضهم يرى أن جواد سليم وفائق حسن أبواه، فيما يشير آخرون إلى تجارب أخرى مشيرين إلى عبد القادر الرسام أو شاكر حسن آل سعيد أو غيرهما.. ما الذي تراه في هذه الأبوة إن كانت فعلاً موجودة؟
□ ربما رأيي الذي سأدلو به الآن لن يستسيغه جزء من العاملين في الفن العراقي، فأنا أجد وبدون مواربة أن من صنع الحداثة الأولى في العراق شاكر حسن آل سعيد وجواد سليم، شاكر بثقافته العالية والعميقة وفنه الذي أبدعه في الخمسينيات، سنشاهد له اليوم نظائر في فن ما بعد الحداثة، فن اليوم، أما جواد سليم فقد أبدع أعمالاً في غاية الرقة والرهافة الحسية، أعمالاً ذات رصانة تكوينية عالية لا تقارن إلا بأعمال كبار الفن العالمي مثل بيكاسو أو ماتيس، وجواد امتاز بأنه وجد لنفسه أسلوباً ميّزه عن الفن الغربي وصنع لنا هوية محلية وإرثا لابد من أن نشتغل عليه ونستفيد منه.
وفي الوقت نفسه، لا أجد أن فائق حسن يشكل ظاهرة مؤثرة جداً في الفن العراقي، اعتقد أنه استاذ رسم أكاديمي ممتاز، وكان وراء تخرج العديد من الطلبة المتفوقين في المجال الأكاديمي، وهو أمر رائع بالطبع، وكل بلد يحتاج إلى نخبة من الرسامين الأكاديميين لوضع أسس للدراسة المدرسية الأكاديمية يكون من شأنها أن تساعد الطالب في بلورة ملامح أسلوبه المستقبلي، ولو أن هناك أيضاً رأيا يقول بعدم أهمية وجود خلفية أكاديمية لدى الفنان وأن هناك العديد من الفنانين العالميين المتميزين ممن لم يكونوا أكاديميين.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى