نزار عبد الستّار يسترجع الذاكرة العراقية المسيحية

سارة ضاهر

نزار عبد الستار الروائي والقاص العراقي، يكتب «يوليانا» (نوفل/ هاشيت أنطوان)، رسولة عاشقة لذلك الإنسان الطيّب، البسيط، المضطّهَد: أنت لست مجنونًا! أنت لست عالةً! أنت لست منفيًّا! الطيبة بداخلك والعفة والقلب الدافئ هي التي أشعلت نور الظلام.
استغرقت رواية «يوليانا» سبعة عشر عامًا، حتى اكتملت وانتقلت إلى رفوف المكتبات. وأحدث صاحب «ليلة الملاك» التي حازت جائزة أفضل رواية عراقية عن اتحاد أدباء العراق، تغييرات عدّة على الفكرة الأولى إلى أن خرجت بصيغتها النهائيّة هذه، ليقدّمها إلى مسيحيّي العراق الذين أخرجوا من الموصل قبل عامين، مشدّدًا على أنهم جزء من الهيكل الأول لوجود العراق ككيان، لأن ما حدث لهم جريمة كبرى، ولا بدّ من إعادة الاعتبار لهم.
أتت روايته «يوليانا» لتُعلي من شأن شريعة المحبّة باعتبارها سلوكًا إيمانيًّا ونهجًا حياتيًّا. أتت لتحيي من جديد مفهوم التآخي والألفة بين الأديان والمذاهب، ولتملأ صدورنا بالعطف والإنسانية على أمل أن تتوقّف المعاناة. يقول عبدالستار:» أنا لم أكتب روايتي كمسلم يريد التوفيق بين طرفين، وإنّما التنبيه الى حلمنا الجمعي في الأمان والسلام والمحبة». و «يوليانا» ليست امرأة تمامًا، وليست قدّيسة وحسب، هي ربّما مدينة، أو ضمير، هي القوّة الصامتة التي تنطق حين تجد نفسًا بريئة تحتاجها لتكون قريبة منها، لكي ترشدها وتخاطبها.
يسرد الكاتب حكايا يمثّلها أشخاص تنوّعت ميزاتهم وطباعهم وملامحهم. أبطالها عائلة بنيامين التي تقطن في بلدة كرمليس الواقعة عند أطراف الموصل، في الفترة الممتدة بين عشرينات القرن الماضي وأواخر ثمانيناته (1967). حكاية الأب ججو والابن حنا وعذابهما نتيجة الإعاقة الجسدية الوراثية، وتمسّكهما العميق بالمحبة التي أشاعها المسيح في الأرض، وقناعتهما الراسخة بدور الإنسان الفاضل. ججو وحنا يواجهان الخيبة بإيمان صادق ويُتهمان بالجنون ويلاحقهما الإنكار إلى أن تظهر لهما القدّيسة يوليانا لتمنحهما اليقين والمكانة المرموقة.
تبدأ أحداث الرواية عندما يزور حارس الذخائر المقدّسة تلك البلدة، حاملًا معه عظمة حقيقية تعود لجسد القديسة بربارة لتوضع في القبر، الذي تؤمن البلدة كلها أنه ضريح القديسة بربارة، وإلى جواره ضريح خادمتها «يوليانا». في هذا اليوم يولد ججو لعائلة مصابة بمرض وراثي يخلق أفرادها مصابين بعاهة في العظام، وعلة في النطق، وقبح في الشكل، فيحمله والده لينال بركة حارس الذخائر المقدسة كي يباركه، على أمل أن تحميه البركة من العاهة الموروثة. يمدّ حارس الذخائر يده على الطفل ليباركه، إلا أنّ بنيامين يخاف ويحدّث نفسه قائلاً :» إنّ هذا الشخص الذي يخلو من روائح التبغ والبصل والثوم وعفن الفقر، ليست له علاقة أبدًا برحمة الرب». فشعر أنّ ابنه سيكون مثله تماماً، يعاني النحافة ويفتقر المرونة، وأنه حين يكبر ويمشي سيحرّك ذراعيه في الهواء على طريقة السباحة الحرة، وسيبدو من بعيد كالشخص الأعرج.
الفقير يورّث ولده الفقر، والمريض كذلك، في مجتمعاتنا التي لا تتعلّم من أخطائها على ما يبدو، بل ترفض أن تتخطّاها. وينتج هذا الرفض، ربما، عن عامل نفسي، وهو الخوف من مجابهة الكبير، سواء في الدين أو السياسة أو الاقتصاد. فرعون نصنعه بضعفنا. بعد عام من ولادة ججو يموت والده، ليصبح الولد نسخة طبق الأصل عن والده. تقول أمه:» لم يولد على هذه الصورة، بل وُلِدَ يشبهني، ليس فيه أي إعاقة، إلا أنّ مباركة حارس الذخائر هي سبب الشؤم الذي نحن فيه».
يكبر ججو حاملاً تشوّهه الشكلي المتوارث، وعلى رغم أنه يخدم في كنيسة القديسة بربارة من كل قلبه وجوارحه، غير أنّ رؤساء الكنيسة لم يجدوا ذلك كافيًا لينصّبوه شمّاسًا، ويبرّرون تصرّفهم بقولهم :» إنّ الناس يحتاجون إلى رجل محترم وعاقل ينقل إليهم كلام الله»، حيث كانوا يصفون ججو بالجنون. إذ كان يؤكّد على مسامع الجميع ظهورات «مار أدي الرسول» والقدّيسة «يوليانا» خادمة القديسة بربارة، فلم يصدّقه أحد، بل كانوا يطلقون عليه لقب «القدّيس الأبله». ججو شخصية ضحّت وعانت إهانات وضربًا وتعنيفًا، لكنّها بقيت على إيمانها وإصرارها.
تتطوّر الأحداث، ويطاول التغيير قرية كرمليس مع قدوم الأميركي وابنته، وكذلك حضور أبلحد، لتصبح أكثر انفتاحًا وتطوّرًا، ويشمل التغيير ججو أيضاً، الذي يأخذه أبلحد إلى الموصل ويزوّجه من ابنته، فينجب منها ولدين، ويمضي بقيّة حياته يعمل خيّاطًاً هناك. يرث ابنه حنا عاهته الجسدية، كما يرث بساطته وسلوكه الفاضل وتمسّكه العميق بالمحبة. لكنّه على عكس والده ينغمس أكثر في الحياة الدنيوية. وبعد سنوات طويلة من الضياع والعذاب، يذهب حنا في زيارة إلى كنيسة القديسة بربارة، وهناك تظهر له يوليانا للمرة الأولى. تخبره أنّ الإيمان هو المحبة، وأنّ الحب هو الذي يصنع المعجزات، فالقديسة يوليانا لا تظهر إلا لذوي القلوب البيضاء، حتى لو كانوا مشوّهين شكليًّا.
تناقش الرواية قضايا شائكة عدّة، بأسلوب فلسفيّ، منها كيف تستحوذ المؤسّسات على الدين، وتستأثر به، وتجيّره وفقًا لمصالحها. فيسخر الكاتب، عبر أبطاله، من بعض آفات المجتمع ومن سلوك معظم رجال الدين الذين يغشّون المؤمنين بأثواب كهنوتهم المزيفة. ويقدّر الكاتب، الكاهن المؤمن الذي تسبق أفكاره الحداثة، المتفاني في خدمة كنيسته. كأن يصوّر يوميات الشخصيّات داخل الدير الكرمليسي، وفي شوارع الموصل، ويرصد دواخل النفوس بواقعيّة سحريّة وسلاسة بارعة، راسمًا لوحة جميلة تحكي العراق ماضيًا وحاضرًا، وتحديدًا المجتمع المسيحي بمعتقداته وتاريخه.
المحبة في الأزمنة الصعبة، بأشكالها المتعدّدة: الملحمي والدينية والدنيوية. هذه المحبة المتمثلة في ظهور يوليانا التي تتحدّث إلى السيدات وتعلمهنّ قائلة :» لا قيمة لحياة ممكن نسيانها. لا قيمة للطعام، والملابس، والمال. إثم الإنسان يقع مع الأشياء التي بلا قيمة، لهذا لا إثم في الحب أيَّتُها العاشقة». تأتي لتظهر للجميع أن الحب الحقيقي ليس في حاجة إلى قداسة أو بركة، البركة في القلب. في القلب وحسب.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى