الراوي «شخص ثالث» نصاً وواقعاً

عمار علي حسن

ربما كان الكاتب المصري حسين عبدالرحيم يدري ما يعنيه عنوان مجموعته القصصية «شخص ثالث» (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، فدلالته لا تقف عند حد منحه لإحدى القصص ليصير عنواناً لها، بل تنسحب على المجموعة كافة، راسمة معالم شخص بالفعل، هو الراوي، يقف بين النص والواقع، وبين حدود الأزمنة والأمكنة ليصف لنا ما يراه، بلغة عذبة، مفعمة بالحنين، تقدم سرداً يتوسل بسحر الغموض، وما تفعله شخصيات لا تخلو من غرابة ومكان يكرس نفسه على مدار معظم القصص، متكئاً على تفرده وجاذبيته وتأثيره في عقول شخصيات القصص ونفوسهم.
ففي رحاب القصص تمد ثقافة سكان الموانئ وأحوالهم أذرعها لتطوقها جميعاً، متقلبة بين ومضات سريعة، ولقطات مكثفة، وبين حكايات ممتدة في الزمان، تبدأ بالجدود الذي خلَّفوا وراءهم مواقف وأقوالاً وأشواقاً ومكابدات هناك في قلب القرى النائية وعلى حافتي الميناء، وشاطئ البحر، والزراعات والصحارى التي تحضنهما من بعيد، لتنتهي إلى الأحفاد الذين يعيشون في المكان نفسه، منصتين إلى ما يقال لهم عما فعله الراحلون، مروراً بالآباء، الذين يشكلون جسوراً واصلة بين ماض لا يزال مقيماً، وحاضر جاثم على النفوس والتدابير.
لعل الإهداء الذي صدَّر به الكاتب مجموعته يقدم مفتاحاً لتعاقب الأجيال في القصص على قِصَرِها وتدفقها اللاهث، إذ يقول: «إلى تلك الأيام… إلى أبي وأمي: حسن عبدالرحيم، والصدِّيقة بنت عبدالواحد، الطلَّات الآمنة من عيون الغرباء. إلى ونس…»، وهو ما يؤكده مطلع القصة الأولى التي تحمل عنوان المجموعة كلها إذ تقول: «منذ عشر سنوات وأنا أرى الحلم نفسه، أبي يقود لنشاً سريعاً، يخترق صفحة ماء هادر. أدقق في ملامحه، أدنو منه وأنا في منطقة بين الوعي بلملمة أطراف الحلم، وبين اليقظة. أتشمم عَرَقَه، أرقب وشماً على رقبته. هو أبي، أو جدي؟». ثم في قصة «عوض» التي يقول فيها: «أراكم جميعاً. جدي العجوز وجلبابه الوحيد. نبوته. عمامته المعطرة. دموعي التي لم تجف. أبي وأمي». وتتوالى مفردات المكان، وهو مدينة بورسعيد المصرية، بلا انقطاع، فنرى السفن، والصواري، والغواطس والفنارات واللنشات والزوارق المطَّاطية والبوارج، وصفارات الإنذار، والمصابيح المعلقة بالأيدي لقتل الظلام الذي يصنعه تلاقي السماء مع الماء في الليالي الشتوية الطويلة، والحمالين والركاب الآتين من بلاد بعيدة، والمراكبية، وجنود البحرية، وشرطة المسطحات المائية، وحرس الميناء، والتجار والسماسرة والمهربين. وبين كل هؤلاء نرى بعض سكان المدينة من أصحاب المقاهي والمطاعم التي تعمل على خدمة العابرين في سفر، والمقيمين بحثاً عن رزق، ونرى كلاب الحراسة المدلَّلة، والكلاب الضَّالة والقطط الساعية خلف قوتها. وتتجلى ثقافة أهل الموانئ أيضاً في قصص الحب العابرة لفتيات جميلات يركبن سفناً تستريح قليلاً، ثم تواصل إبحارها إلى بلاد في قارات أخرى، منهن «ميرندا» الإيطالية التي يقول الكاتب في قصة تحمل اسمها: «كنت دائماً أراها هائمة، طائرة، تريد مفارقة أرضنا الجدباء، رغم المطر الذي يغمرها»، أو ما يقوله في قصة «صرخة الحرير» عن «البنات الأتراك، المولودةُ كبيرتُهن على سطح مركب صقَلي رحَل من ميناء جنوة فجراً، ليتوقف في اسطنبول لساعات قبل منتصف ليل شتوي دافئ، ليعبر البسفور». وعلى منوال، الإيطالية والتركية هاتين، تعبر الوجوه، التي يحاول طفلٌ يطل بين سطور غالبية القصص أن يستعيدها، ويبذل جهداً خارقاً في سبيل لملمة ملامحها من فوق أفاريز الأيام، التي تمضي بلا هوادة، مُمعنة في تعميق شعوره بعذاب الغربة والوحشة والخوف، ولذة الحنين إلى غابر الأيام. إنها أيضاً ثقافة الاغتراب والخوف من المجهول والشعور الدائم بالخطر، التي سيطرت على نفوس أهل مدن القناة المصرية، الذين عانوا التهجير والتفرق والتشرد في البلاد، إثر حروب 56 و67 و73، فرَاحَ الراوي يتحدث دوماً عن «الغربة» و «الاغتراب» و «الغرباء» وشخص يسمى «سيد غريب» صار بطلاً لقصة تحمل اسمه؛ «غُربةُ الغريب وغُبنُ الأرض الخرساء التي لا تنبت إلا أزهاراً ميتة»، ما يجعلها تفتقد الأُنسَ والأُلفة، فهي «فريدة تلك البلاد، والمدينة والبشر والهواء والهوى، فريدة في ضمتها لضلوعي وأنا الخائف في كِبَري، الغائص في طفولتي المنسية التي تأبى الرحيل»، وهو حال مقيم لأبطال القصص على تنوعهم، وتفرقهم في الزمان.
لهذا يظل الراوي مشدوداً إلى أماكن آمنة، هناك في قلب الريف، وعمق المدن التي لا تستهدفها الطائرات الحربية والصواريخ ودانات المدافع الهادرة، في القاهرة، حيث شارع «محمد علي» المسكون بالبهجة، وصخب الحياة، أو في القرى حيث بيوت الطمي والزرع، وحيث: «حقول الفواكه ورائحة المانجو وبريق العنب البناتي المبدور فوق طريق أسفلتي»، وحيث «تلك الأيام الونس، والطلَّات الآمنة في عيون الغرباء الجالسين أمام الأكواخ الطينية في الليالي القمرية».
إن هذه القصص تثير في قارئها حالة من الشجن والافتتان، فينسى اكتمالها، أو لا يعنيه، وقد لا ينشغل بتداخلها وتشابكها، كنصوص متتابعة أو متجاورة أو متكررة، وحالة الغموض التي تلفها، والذهاب والعودة في الزمن، اللذين لا يتوقفان، وربما لا تستقر في رأسه أية تفاصيل متماسكة، لكنه لن ينسى المتعة التي تأخذه وهو يطالع سطوراً، ترتقي في بعض مواضعها إلى الشعر، وفي أخرى إلى الكلام الشفاهي الذي تصدره ألسنة وضع طولُ العمر وقسوة التجربة عليها كلاماً يمس شغاف القلوب، وحكمة معتقة، ورغبة دفينة في صناعة الدهشة.
وهذه الطريقة في السرد يتميز بها حسين عبدالرحيم، كما تبين هذا مجموعاته السابقة، ليذكرنا بالمصري الراحل إبراهيم فهمي، الذي خطفه الموت مبكراً، لكنه ترك لنا نصوصاً، ساحرة بغموضها ولغتها الخاصة وعوالمها البكر، مثلما تجلى في مجموعته «العشق أوله القرى»، كما تذكرنا بما يكتبه المصري «رضا إمام» الذي أصدر ثماني مجموعات قصصية، تحمل بعض هذه السمات. لكن يظل اختلاف حسين عبدالرحيم عنهما في تجربته الحياتية التي ينهل منها، وفي المكان الذي أسرَ روحَه، وهو مدينة بورسعيد. لقد ترك الكاتب قلمه يكتب بعفوية عما يحس به، وما أسعفته به ذاكرة مكدودة ومشدودة إلى ما جرى في سالف الأيام. وربما كُتبت بعض القصص دفعة واحدة، ما تشي به السطور اللاهثة، والجمل المكثفة، والشاعرية التي تهيمن عليها، وهناك قصص كتبت على مهل، لكنها جميعاً تشكل حالة سردية، قد تمنحها وحدة المكان والراوي وتكرار المفردات والشخصيات بعداً فنياً آخر.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى