فيلم «الأوديسا» للفرنسي جيروم سال: دراما انسانية ترصد ترويض الطبيعة

حميد عقبي

لم يخفِ المخرج الفرنسي جيروم سال إعجابه بشخصية جاك إيف كوستو، التي يعتبرها من أهم الشخصيات في طفولته، لكن فيلمه «الأوديسا» لم يخصصه لعرض سيرة ذاتية لجاك كوستو، ولا تقديم مغامرة سندبادية مثيرة أو كوميدية، بل ذهب أبعد من ذلك ليتطرق إلى مواضيع مهمة وليناقش عدة أفكار حول الازدهار الصناعي والتكنولوجيا والتقدم الذي حدث في الغرب، والتكلفة الضخمة التي دفعتها الطبيعة، فهذه الثورة التكنولوجية لم تكن تهدف لإسعاد البشر، وكانت الشركات العالمية الكبرى المستفيد الأول، وظلت تمارس التضليل الإعلامي الزائف. نحن لسنا مع درس تربوي ولا خطابات اجتماعية، فالفيلم دراما إنسانية نسجت ببراعة لغة سينمائية مدهشة كان للطبيعة والبحر وكائناته وعمقه دور مهم ولم يكن مجرد خلفية أو ديكور ساحر وجذاب.
يتحدث الممثل لامبيرت ويلسون في عدة مناسبات عن مشاركته في فيلم «الأوديسا» للمخرج جيروم سال، ونفهم من كلامه أن شخصية جاك كوستو ليست شخصية عادية، فهو مشهور عالميا كمستكشف وغواص وسينمائي وصاحب شركات إنتاج، وشخصيته ليست سهلة، ويثور حول حياته الخاصة الكثير من الجدل، خصوصا بعد زواجه الثاني، كل هذا جعل تجسيد الشخصية مغامرة خطرة، وهذه الخطورة لا تكمن في تعلم وممارسة الغوص في عمق البحر، فهذه متطلبات تقنية ضرورية وليست معقدة، لكن التعقيد يكمن في تجسيد صادق لشخصية كوستو، ما دفعه للبحث والتعرف إلى الرجل، وعكس أحاسيس تقربنا منه وتزيد رغبتنا في التعمق أكثر لمعرفته، لا لإبراز أخطائه أو تشويه صورته.
تحدث المخرج جيروم سال ووضح أن دافعه الأول لإخراج هذا الفيلم كان حماية هذه الشخصية الفريدة من النسيان، وما حدث في الفيلم ليس مجرد طرح سيرة ذاتية لغرض توثيقي، فالفيلم حاول جمع شتات وحكايات مبعثرة هنا وهناك، تم صهرها في قالب حكائي درامي، نرى فيه عائلة وعلاقة الأب مع الابن، وتدور الأحداث في عوالم ساحرة حيث تبرز الطبيعة البحرية لتشكل لوحات مدهشة وناطقة.
وهو يرى أن الكابتن كوستو آخر المستكشفين العظماء، الذي بفضله تم استكشاف أماكن مجهولة وعالم ساحر يتعرض للتدمير، ولقرع جرس الإنذار للخطر والكوارث التي تهدد البحار، وهكذا حدث تحول جذري في رحلة كوستو من موثق ومنتج أفلام إلى حامل قضية ودخوله في صراعات ومعارك صعبة، فالطريق لم يكن مفروشا بالورود، والفيلم عكس هذا النضال وصور تلك الأماكن ليعيد تذكيرنا بالقضية، كون الطبيعة هي من يدفع فاتورة جشع المصانع الكبرى وهمجية العقلية الربحية التي لم ولا تحترم الحياة.
الممثل بير نينه كشف في بعض المقابلات أن الفيلم خلق في نفسه الكثير من الفانتازيا وكبرت محبته للبحر والغوص وكذا المخلوقات البحرية، فمثلا سمك القرش ليس بتلك الوحشية التي تصورها لنا أفلام الرعب، بل هي مخلوقات رائعة تشبه الكلاب في عاداتها ولا تكون عدوانية إلا عند شعورها بالخطر من الإنسان، وأن المشاهد كلها حقيقية وتم تصويرها في الطبيعة وليس في استوديوهات مغلقة، وكوستو بالنسبة له، إنسان صاحب رؤية وشخصية كاريزمية وهناك جوانب عبقرية ومدهشة في شخصيته وكذا جوانب سلبية مثلنا جميعا.
ويضيف نينه أن الملايين من الناس تمتعت بسحر عالم أعماق البحار بفضل الكابتن كوستو، وكذا شعر الناس وأحــــسوا بمخـــــاطر يتعرض لها هذا العالم الذي يجب عليــــنا جميعا الدفاع عنه، كما أن الفيلم خاض في قضية إنسانية شائكة هي علاقة الأب والابن فهـــــنا ظهر الحب والتكامل بين كوستو وابنه فيليب، ثم حدث الصراع وهذا يأخذنا في رحلة أخرى صعبة في أعماق الشخصيات، وهذه الرحلة تثير الكثير من الأسئلة الفلسفية.
سنعيش في هذا الفيلم مع سيمون زوجة كوستو (اودري تاتو) التي يعود لها الفضل في إشعال هذه المغامرة، مضحية بكل ما تملك ليتحقق حلم الزوج، ولكن المقابل كان مؤلما، فبعد أن حقق الزوج النجاح والشهرة خاض تجارب عاطفية وأصبحت الزوجة في الظل، ففضلت العزلة في حجرتها في داخل السفينة وأدمنت على الكحول، ميشيل كوستو نشر كتابا عن والده وأعطى البطولة المطلقة لأمه سيمون التي يعتقد أنها السبب الرئيسي لعظمة وشهره والده، ولم يذكر في كتابه الزوجة الثانية لكوستو وتحدث ذات مرة ووضح أن الزوجة الثانية لوالده لا تدخل في تاريخ العائلة، ولم يكن لها أي دور مهم، ونرى أن الفيلم أهمل الزوجة الثانية، أما فيليب كوستو فقد ظهر في الفيلم كبطل ولم يكن مجرد شخصية ثانوية عابرة.
فيــــــلم «الأوديسا» يبحر في عمق شخصية جاك كوستو المستكشف العبقري وأحد رواد علم البيئة الحديثة والرجل المثير للجدل، والفيلم يعكس كذلك مرحلة مهمة في تاريخ البشرية عندما شعر الإنسان بأنه قوي جدا وبمقدوره ترويض الطبيعة وهزيمتها ثم يكتشف أن تهوره سبب في تدمير الكون.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى