الأفغاني عتيق رحيمي يحرر المرأة في روايته «حجر الصبر»

عثمان بوطسان

رواية «حجر الصبر» كتبها عتيق رحيمي إحياء لذكرى شاعرة أفغانية قُتِلَتْ بوحشية على يد زوجها، ومن المعروف أنّ هذه الشاعرة الأفغانية التي يقصدها رحيمي هي ناديا أنجومان، التي قتلها زوجها عام 2005. وقد وضع الكاتب استهلالا على لسان الشاعر والمسرحيّ الفرنسيّ أنطونين أرتو، يقول فيه: «من الجسد وبالجسد ومع الجسد منذ الجسد وحتى الجسد».
وتعتبر رواية «حجر الصبر» من الروايات الأكثر شهرة في المشهد الأدبي الأفغاني والفرنسي، بعد حصول عتيق رحيمي على جائزة «غونكور الفرنسية». هذه الجائزة الرفيعة المستوى جعلت من هذه الرواية حديث الصحافة والنقاد الفرنسيين، خاصة الأسلوب الذي تتميز به والطابع الروائي الذي يعكس بكل صدق الواقع الأفغاني. إنها رواية تدور أحداثها حول زوجة شابة لها طفلتان أنجبتهما عبر زنى المشعوذين، كي تحتفظ بزوجها العسكري العقيم، وغرفة كئيبة يقبع بها هذا «الزوج الجثة» بعد إصابته برصاصة كالحسكة لم تقتله، ولكنها تركته يعيش موتا سريريا يعتمد في غذائه على أنبوب سوائل تغير أكياسه الغلوكوزية كلما فرغت.
وقد اعتمد الكاتب على أسلوب سردي، يعتمد غالبا في كتاباته الروائية والشعرية، وهو أسلوب السرد عبر المحادثة الداخلية «المونولوغ» و«الميلودراما»، حيث يجعل الرواية تشبه نصا مسرحيا تتكلم فيه الزوجة عن معاناتها وحزنها طوال النص. فالروائي يستعمل هذا الأسلوب كثيرا، إما عن طريق جعل الشخصيات تحاور نفسها، أو يحاور نفسه «الكاتب» كما فعل في كتابه «نزهة القلم». إذن، هي، رواية يحاول من خلالها عتيق رحيمي كشف الستار عن أفغانستان؛ أرض الدم والحرب والبارود. فالكاتب يجعل الشخصيات تحكي عن حجم معاناتها بسبب الحروب والانقلابات الداخلية وما يشكل ذلك من ألم ومعاناة عند المجتمع الأفغاني، خاصة المرأة التي تفتقد إلى أبسط حقوقها، كالكلام والتعبير عن رغباتها. هذا الكتاب الدموي هو نتاج لمجتمع ملطخ بالدم، إذا ما رجعنا إلى مدرسة التحليل الأدبي الاجتماعي. فهي مرآة لما يقع في هذا المجتمع المنغلق على ذاته والمحافظ على تقاليده وطقوسه الاجتماعية والدينية. إن «حجر الصبر» بمثابة اعتراف لامرأة لم تجد الحرية يوما، خوفا من الزوج والعائلة والمجتمع، الذي يحرمها من هذه الحرية. إذ تعكس هذه الرواية بجلاء صورة المرأة الشرقية والانغلاق الذي تعيشه هذه الأخيرة، بسبب العرف والدين والمجتمع. لكن عتيق رحيمي يحرر المرأة من قيودها ويترك لها كامل الحرية في الكلام والتعبير عما بداخلها.
هذا التحرر يظهر بوضوح حين تتطرق المرأة «الزوجة» لموضوع الجنس والعذرية، وتحاول جاهدة السخرية من زوجها «الجثة»، الذي يسمع فقط. تحرر يجعلها تكشف القناع عن كل التابوهات، دون خوف، ودون تردد. وحسب الكاتب الليبي محمد الأصفر، يمكننا من خلال «حجر الصبر» أن نقرأ أفغانستان، حيث الدم والبارود والحب والحشيش والجهل والموت المنتشر في كل ركن، وأيضا الأمل الذي تبرزه الزوجة من خلال سردها لحكاية شبيهة بحكايات ألف ليلة وليلة، لكنها تتركها بلا نهاية، حيث إن كل نهاية سعيدة متوقعة لا بد أن يكون بناؤها قد تم على تعاسة أو موت أناس آخرين.
إن السخرية من الزوج، هو في الوقت نفسه سخرية من المجتمع الأفغاني الغارق في الرماد. فالكاتب بتحريره للمرأة، يرفع من مكانتها ويعوضها عن الحرية المفقودة. رغم أن هذا التحرير ليس إلا فعلا رمزيا، غير أنه يعكس الواقع ويكشف حقيقة المرأة الأفغانية التي تعيش في صمت. ولعل هذا الاحتقار للمرأة في هذا المجتمع الرجولي التقليدي، هو الذي دفع نساء البشتون إلى كتابة الشعر والتعبير عن الحب والمعاناة في أرض لا تعرف إلا لغة السلاح والعنف والموت.
عتيق رحيمي يكشف من خلال معاناة المرأة، معاناة مجتمع جعلت منه الحرب «جثة»، ولعل هذا هو السبب في اختيار شخصية تعاني موتا سريريا. فالكاتب يصور لنا بطرق مجازية ولغة نثرية شعرية وضعية المجتمع الأفغاني، محاولا رسم الواقع دون زخرفات زائدة. وهنا سنختلف مع ما كتبه محمد الأصفر حين قال: «سأعتبر رحيمي من الروائيين الكبار لو أنه كتب رواية عن المجتمع الفرنسي، أو أي شيء غير أفغانستان والشرق، حيث المادة الجاهزة والثرية والمطلوبة في الغرب، لكن الاشتغال بقضايا مطلوب الترويج لها أو تسويقها كقضايا العرقيات، كتلك التي عالجها الروائي الليبي إبراهيم الكوني في رواياته حول مجتمع الطوارق، تجعل جهد الروائي أقل مما هو منتظر».
إن الكاتب الأصيل، هو الذي يهتم بمجتمعه ويحاول كشف واقعه للقارئ، أي أنه نتاج وصورة للمجتمع الذي يمثله، وعليه التمسك بالهوية الثقافية التي يتنمي إليها. وعليه فمحمد الأصفر تجاهل هذا الأمر، حتى لو كانت المادة جاهزة، فما يميز عتيق رحيمي عن باقي الكتاب ليس المادة، وإنما أسلوبه السردي واللغة الرمزية التي ينفرد بها، بالإضافة إلى دمجه لمجموعة من الأشكال الأدبية في شكل واحد. كما أن عتيق رحيمي يعتبر من الكتاب القلائل الذين يهتمون كثيرا باللغة ويجعلها محور كتاباته الروائية والشعرية. ثم كيف لكاتب أفغاني أن يكتب عن مجتمع لا ينتمي إليه لا تاريخيا ولا لغويا ولا روحيا؟ إن فرنسا ليست سوى بلد اختاره الكاتب كمنفى بعدما قيدت حريته في أفغانستان، واختياره للغة الفرنسية في الكتابة، ليس سوى بحث عن حرية أكثر، فاللغة الأم «الفارسية» تقيد إبداعه وتجعل من التابوهات حاجزا أمام خياله وكتاباته، لذا فالفرنسية تمكنه من التمرد على كافة القواعد اللغوية والموضوعية. غير أن الكاتب وفي لوطنه الأصلي «أفغانستان» المتجدر في روحه وكيانه. ويظهر ذلك بكل وضوح في أعماله الأدبية التي تعكس الواقع الأفغاني الدموي.
وفي هذا الصدد، فإن «حجر الصبر» رواية موشومة بالموت والحرب والحزن والصمت. والجمل القصيرة التي استعملها الكاتب في هذا النص، تجعل القارئ يجد لذته. إذ إن عتيق رحيمي يصور مأساة بلاده في غرفة ضيّقة، وعن طريق مونولوغ امرأة شابة، تتحول إلى راوية متحررة يتدفق من فمها المطبق سيل من الألم والكلمات الجريئة العميقة، والمشحونة برغباتٍ دفينة، وكأنها تنتقم من صمتها طوال المدة التي عاشتها مع زوجها. مما يدخلها في مصارحة جريئة ومناجاة هذيانيّة، تبوح من خلالها بأسرارها القديمة، متحدّية الخوف والخضوع.
وإن تحرير المرأة في هذه الرواية يعكس حجم المعاناة التي تعانيها النساء الشرقيات في مجتمعات ظلامية، جعلت من الحرية سجنا للمرأة والأدباء والفنانين. وهذا سبب لجوء العديد من الأدباء الأفغان إلى اختيار اللجوء الثقافي إلى بلدان أخرى، بحثا عن فضاء للتعبير الحر والكتابة دون قيد. إن الروائي يركز بالأساس على الجانب النفسي لشخصياته، أي أنه يصور للقارئ الجانب النفسي المتأزم للفرد، نتيجة هذه العوامل الاجتماعية. فالزوجة ليست سوى صورة من مئات الصور الحية التي تعالج مآسي أفغانستان. والتركيز على المرأة في الكتابة الروائية الأفغانية من أسس هذا الأدب غير المعروف كثيرا، فالمرأة تعكس بكل صدق حجم المعاناة التي يعانيها هذا المجتمع.
ولا شك أن عتيق رحيمي من الكتاب الذين يهتمون كثيرا بلغة الجسد ويجعلون منها أساس بعض الكتابات، كما هي الحال في جميع نصوصه. فالجسد لغة تعبيرية لا تقل نظيرا عن اللغة اللسانية أو الكلامية، ويأتي هذا التركيز على الجسد في محاولة منه للتحرر وتحرير شخصياته من قيود المجتمع الأفغاني المتشدد، الذي يجعل من الجسد تابوها وجريمة. ولا يمكن تحرير المرأة دون تحرير جسدها المثقل بالمعاناة والألم والجروح. ولعل هذا السبب وراء اختيار اللغة الفرنسية، بحيث إنها تمكن الكاتب من تجاوز العقبات الأخلاقية والتقليدية التي تفرضها اللغة الأم «الفارسية».
هكذا يتجلى أن رواية «حجر الصبر» من الروايات التي تستحق القراءة، لما تتميز به من حمولات لغوية وجمالية. وهي عمل سرديّ منطلق من الواقع، ومن واقعة حقيقية مغلقة، من أجل الذاهب إلى فضاء إبداعي قل نظيره في الكتابات المعاصرة، حيث الحكاية داخل الحكاية، والخطابات المندسة المفضوحة، والترسبات الجاثمة في قيعان الذات المقموعة والمجتمع القامع، التي تدلل عليها عبارة العمة المومسة في قولها: «إن أولئك الذين لا يعرفون كيف يمارسون الحب يصنعون الحرب».
إن سطوة التقاليد وقانون القبيلة في بعض المجتمعات الشرقية، خصوصا في بلد مثل «أفغانستان»، يجعل من هذه الرواية لوحة فنية وأدبية دراماتيكية تكشف المستور عن البنى المسعورة والمتكالبة ضد الذات في محاولاتها اليائسة للهرب والنجاة، إذ يحاول عتيق رحيمي من خلال تقنياته السردية (كما يفعل مع الزمن في عدّ الأنفاس وحبات المسبحة وقطرات العينين) الإنصات بحرارة وصدق إلى وقر تلك الحمولة البغيضة، التي تعيشها وتشهد صدماتها المرأة في هذا المجتمع المخنوق والظلامي بفعل الجهل والتخلف والتناحر القبلي والطائفيّ، والحروب العبثية، والانسحاقات النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
وعلى العموم، فإن تحرير المرأة في رواية «حجر الصبر» ما هو إلا ثورة أدبية على هذه القوانين الظلامية التي تجرد المرأة من حقوقها، وتأزم وضعيتها النفسية والاجتماعية. فالمرأة المنكسرة المهزومة تثأر لنفسها، وتنتقم من الاحتشاد الاجتماعي، الذي يُعلي من قيم الذكورة وأغشية البكارة، ومفاهيم البطولة الجوفاء، وشجرة الأنساب البائسة، والمعاني الشائهة، التي يتم بها تدثير الدين والأخلاق والجسد، تحت رعاية وسطوة وسلطة ذلك الكلّ، الذي يسمّى مجتمعا أو إقليما أو وطنا.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى