الوثائقي «في شرفة تيتي»: تاريخ مصر بعين يهودي شيوعي

محمد عبد الرحيم

التعريف الدعائي القصير للفيلم الوثائقي «في شرفة تيتي»، الذي عُرض مؤخراً ضمن عروض برنامج بانوراما الفيلم الأوروبي في القاهرة، بدا دعائياً تتصدره الديانة كمفارقة وحافز للمشاهد بأنه سوف يرى مخلوقاً غريباً ــ يهوديا في مصر. فتيتي حسب التعريف «رجل يهودي مصري شيوعي»، بينما في حديث الرجل تأتي مسألة الديانة وكأنها قدر عَرَضي، تم التعالي عليه، و تجاوزه.
يرصد الفيلم، وهو إنتاج فرنسي ـ مصري عام 2016، ومن إخراج ياسمينا بناري، حياة مصري اختار نهجاً واعياً ينحاز إلى الفكر الشيوعي، رافضاً في الوقت نفسه دوغما الشيوعيين وأوثانهم، وناقداً أصنامهم.
قضى تيتي حوالي 11 عاما في سجون عبد الناصر بتهمة الانضمام للحزب الشيوعي، اختار قناعاته ودافع عنها حتى النهاية، وشرفته المغطاة بالنباتات الخضراء، هي البديل كما قال للون الأصفر الذي ظلت عيناه تراه طيلة الأحد عشر عاما في سجن الواحات، هكذا علّق على اهتمامه بالنباتات واللون الأخضر الذي يحبه.
وكان لموقع منزل تيتي، الذي يطل على ميدان التحرير أن يكون شاهداً على العديد من الأحداث التي مرّت بمصر، بداية من انقلاب يوليو/ تموز 1952، وحتى ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011. يستعرض تيتي تحليله لهذه الانقلابات والثورات ومواقف الناس منها، بداية من تأييده ليوليو في البداية، ثم الانقلاب على محمد نجيب أول رئيس لمصر بعد العهد الملكي، وحرب عبد الناصر ضد الشيوعيين بكافة فصائلهم، وحكاية السادات، وانتفاضة الخبز في السبعينيات من القرن الفائت، وصولاً إلى ثورة الشعب في يناير.
ويتابع تيتي بدقة إرهاصات هذه الثورة، حيث كان ميدان التحرير المحطة الأخيرة الدالة عليها، والتي بدأت باضرابات عمال المحلة الكبرى، والحركات التحررية المناهضة لحكم مبارك المخلوع، كحركة «كفاية» و»6 أبريل». ويرى الرجل أن هذه الإرهاصات كانت حتمية في مآلها وهو ما حدث يوم 25، الذي أسقط حُكم مبارك.
الفكر الديني دوماً فكر أحادي، فإما مع أو ضد، وقد أعطى السادات للجماعات المتأسلمة مساحة كبيرة في نسيج المجتمع المصري، وكانت نهايته على يدها. وجعلها مبارك صمام أمان لاستمرار حكمه البوليسي. والآن أصبحت هذه الإفرازات الدينية تتخذ شكلا اجتماعيا، دون الاقتصار على الصراع أو المواجهات السياسية وأصبح المجتمع المصري تصنيفياً وانعزالياً، كما لم يكن من قبل، «لقد تغيّرت مصر». هكذا يقول الرجل، الذي يعيش مع زوجته وابنه في القاهرة، بينما بعض أقاربه في الإسكندرية. وربما تجربة الابن هي الأكثر صعوبة في ظل هذا الجو الخانق، الابن الكهل الآن يستشعر هذا المناخ ويحياه، في الشارع والعمل والتعاملات اليومية.
ألبرت أو تيتي كما يحب أن يُنادى يعد من أبناء الثقافة الفرنسية، يتحدث بها، ويشاهد قنوات التلفزيون الفرنسية، والابن كذلك، وحينما يتعثر في مقابل للكلمة بالعربية يصحح له تيتي الأمر، فالرجل يتحدث العربية أيضاً هو وزوجته. ولا ندري لماذا أدارت المخرجة الحوار بالفرنسية، ما منح الرجل حالة أكثر اغتراباً، لغة وزمناً وحياة. ربما لأنه يفكر من خلال هذه اللغة، أو لظرف من ظروف إنتاج الفيلم، أو ما شابه.
وأهم ما يميز الفيلم هو اكتشاف الرجل، وجعله يتحدث عن تجربته الحياتية المهمة، ليست كتجربة ذاتية فحسب، بل واجتماعية تتماس مع كل ما مرّت به مصر من أحداث، ومن وجهة نظر مختلفة إلى حدٍ كبير. بخلاف ذلك فالتقنية التوثيقية لم تستطع الفكاك من التقليدية، كاميرا ثابتة معظم الوقت للرجل وهو يتحدث، لقطات أرشيفية سواء فوتوغرافية أو لقطات فيديو للانتفاضات الشعبية. فوتوغرافيا لمراحل الرجل العُمرية من طفولته وحتى الآن، أي كل ما هو متوقع في مثل هذا النوع من الأفلام. لكن يبدو أن وعي الرجل الحاد هو ما كان يقود السرد كما يحلو له، وهناك مسافة حافظ عليها دوماً بينه وبين صانعة الفيلم، وهو ما جعلنا في البداية نلحظ دعائية ما انتوته، فالرجل نجح بالفعل في أن يجعلنا نطل من شرفة وعيه في المقام الأول، وهو ما تم إنجازه بالفعل واتخذ شكلا وثائقيا يحمل عنوان «في شرفة تيتي».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى