كوميديا سوداء من «نتفليكس»: الإنسان في عزلته

محمد موسى

لعل خط إنتاج الأعمال الكوميدية لشركة «نتفليكس» لا يحظى بالسمعة ذاتها والاهتمام الإعلامي الذي يستحوذ عليه نظيره الخاص بالمسلسلات الدرامية، والذي يعود لأسباب أهمها: أن شهرة الشركة الأميركية تلك ترتكز على نجاح مسلسل عالي الدراما هو «بيت من ورق»، الذي مازال يشكل الماسة الثمينة في تاج الشركة التي تبيع الترفيه عبر الإنترنت. كما أن الموازنات الإنتاجية الكبرى للشركة تذهب بالعادة للمسلسلات الدرامية، في الوقت الذي تبدو مسلسلات كوميدية للشركة وكأنها ساحة للتجريب على صعيد استقدام كتاب وممثلين، بعضهم غير معروف للجمهور الكبير.
ومن مجموع المسلسلات الكوميدية التي أنتجتها الشركة هذا العام وحده، تبرز ثلاثة مسلسلات كوميدية تؤكد اتجاه فنيّ خاصاً، يمكن إيجازه بأنه امتداد للروح الإبداعية المستقلة الأميركية، التي كانت تجد في السينما الأميركية المستقلة الحضن البديهي والوحيد لها، أو في نتاجات محطات تلفزيونية خاصة مثل «أتش بي أو» الأميركية، والأخيرة هزّت وحدها قبل عقدين من الزمن التلفزيون الأميركي وبعده الغربي، ودفعته لمراجعة قصصه ومعالجاته، ومهدت للتغيير الهائل في طبيعة المسلسلات وجودتها وقدرتها على تجسيد هواجس وقلق مُعاصرة.
أول هذه المسلسلات هو «حب»، الذي كما يقترح العنوان يقدم علاقة حب ستتوزع على حلقاته الـ 12. كتب المسلسل المؤلفان السينمائيان جود أبتو وبوول رست، ومثله ممثلون وممثلات كوميديون غير معروفين في دوائر واسعة. تجري أحداث المسلسل في مدينة لوس أنجليس وشخصيته الرئيسية هو موظف عادي في محطة تلفزيون أميركية يملك طموحات بكتابة سيناريو مسلسل.
وعلى رغم أن جغرافيا أحداث المسلسل ليست بعيدة من هوليوود، فإن عاصمة السينما ستكون خلفية باهتة ليوميات شبان بحيوات مرتبكة تبحث عن الحب.
يلتقي البطل في الحلقة الأولى فتاة كانت تعاني من الاكتئاب والإدمان على تناول الكحول وسيقضيان الموسم الأول من المسلسل وهما يقتربان ويبتعدان من بعضهما بعضاً في إيقاع يشبه الحياة بكل بطئها وسأمها. تتفجر كوميديا المسلسل من التفاصيل الصغيرة والمراقبة المدهشة للسلوك البشري، وهناك تأثيرات لكوميديا المعلم وودي ألن التي حفرت في وعي أجيال من الكوميديين الأميركيين.
ولعل أجواء مسلسل «سهل»، لا تختلف كثيراً عن التي قدمها المسلسل السابق، عدا أنه نقل قصصه إلى مدينة شيكاغو، ويقدم في كل حلقة قصة واحدة للشخصيات العديدة فيه، والتي ترتبط مع بعضها بعلاقات قوية أو واهية أحياناً، ومعاً تشكل فسيسفاء الحياة اليومية لطبقة مثقفة في المدن الكبيرة.
في الحلقة الأولى من المسلسل نتعرف إلى زوجين تمرّ حياتهما العاطفية الحميمة بأزمة برود، ويحاولان عبر زمن الحلقة استعادة الشوق الذي انطفأ. فيما تقدم الحلقة الثانية قصة حب مثلية بين فتاتين، والثالثة عن ممثلة مسرحية بريطانية تواجه خيارات صعبة في شأن التوفيق بين حياتها العاطفية والمهنية في الولايات المتحدة.
يندرج المسلسل الكوميدي الثالث لـ «نتفليكس» وعنوانه «أيها الكارهون ابتعدوا» ضمن المسلسلات الكوميدية المبالغ في سوداويتها، إذ يقدم يوميات «ميرندا»، الشابة الأنانية الواهمة التي تعتقد بأنها تملك موهبة غنائية، وتحاول بمساعدة عمها البعيد هو أيضاً من الواقع، تحقيق النجومية عبر وضع أغانٍ لها على موقع «يوتيوب». إلى جانب هاتين الشخصيتين، هناك أم الفتاة وشقيقتها وتُقدمان بلا كوميديا، وتوازنان تطرّف الجانب الآخر.
اهتم المسلسل بالجانب الشكليّ منه عبر المبالغة في درجة الألوان وأحمر شفاه البطلة، وما ترتديه الشخصيات، كل هذا ليزيد من تأطير العالم الخياليّ الغريب الذي تعيش فيه البطلة.
تنهل المسلسلات الثلاثة كوميديتها من الوحدة والألم الإنسانيين، بل إن بعضهم ربما يجد صعوبة في وصفها بالكوميدية، وذلك لأجوائها القاتمة والجروح التي تفتحها. وعلى رغم أن مسلسلي «حب» و«سهل» هما عن طبقة مثقفة تسكن مدناً أميركية عملاقة، فإن هذه الطبقة بالذات وبسبب ثقافتها، والخيارات المتوافرة لها، والوضع الاقتصادي الذي تعيش فيه، قادرة على التعبير والحديث عن أحلامها وهواجسها، ربما أفضل من طبقات أخرى، كما أنها لا تتوقف عن البحث عن سعادتها على رغم العثرات والمطبات.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى