ناتالي الخوري.. الكتابة وتحرير الذات

نازك بدير

ما جدوى الكتابة إن لم تكن عبورًا من وجع الواقع ومظالمه إلى فرح العيش في النور؟ ما جدوى الكتابة إن لم تكن عبورا من ضجيج الخارج إلى سكينة الداخل؟ في خمسة أقاصيص تحت عنوان «العابرون» تسير بنا ناتالي الخوري غريب في رحلة صادمة وموجعة حينا ورومنسية وحالمة ووادعة حينا آخر في مزج بين الأسطورية والواقعية بلغة شاعرية لم نعهدها في روايتيها السابقتين «حين تعشق العقول»، و «هجرة الآلهة والمدائن المجنونة». فعلى الرّغم من أنّ الإنسانيّة والهمّ الوجودي والعدالة الإلهيّة ومعاناة الإنسان العربي والتّحرّر من الموروث والحواجز البشريّة نحو تأسيس سعادة كونيّة هي ثيمات أساسيّة في كل ما كتبَت، إلا أنّ هذه الهواجس برزت عند الكاتبة بأسلوب مختلف في هذه المجموعة المثقلة بالرموز اللاهوتيّة، والتّكثيف الجمالي في عبارات تنتظم ضمن معجم نورانيّ، يعكس إيمانها بدين الإنسانيّة طريقا للخلاص.
«كتاب الناسك» هو عنوان أقصوصة مشحونة بالرموز التي تُقرأ باطنيًّا، إذ يُظهر مجرى الدّلالة تمسّك رواد بالتّديّن الحرفي وإخفاقه في فكّ ألغاز الكتاب. ويحضر في هذا المجال الاسم المئة في رحلة بلداسار والبحث عن الحقيقة. كذلك يحضر اسم رواية أولاد حارتنا في عدم الوقوف عند البنية السطحيّة للنصّ، إنّما الغوص على بنيته العميقة، ومحاولة قراءة باطنه. تسلخ الكاتبة الأقنعة وتواجه الإنسان بذاته الحقيقية التي لم يصبها عفن. هو حنين إلى عالم البراءة والفطرة بعيدًا من تشوّهات المدنيّة «لأنّنا شعوب تكره الوقوف أمام المرايا، لأنّنا نخاف من حقيقة وجوهنا المشوّهة» (ص.59)
أمّا أقصوصة» الغريبان» فقد طرحت مسألة الحريّة التي يكبّلها البشر بأغلالهم. ولم يكن اختيار العرّافة في الأقصوصة عشوائيًّا، إنّما هي رمز للمعرفة المنقوصة، على الرغم من أنّها دعت إلى التحرّر من الحواجز التي تخلقها أوهام البشر.
وبالعودة إلى» جبل الأماني» يظهر كيف تفتّتَ الزمن، فلم تأتِ الأحداث في نسقٍ خطيّ متتال، إنّما، كثرت الاسترجاعات والاستباقات. الزّمن زمن حرب، زمن الخطف والعهر والقتل والاتّجار بالأعضاء. ضحايا الحرب هم من الأبرياء الذين لم يجدوا ملاذا لهم لا في الصلاة، أو في عقْد النّذور أمام شجرة الخردل. ولم يكـن تقطيع زينة لأغصان تلك الشجرة سوى اجتثاث للطقوس المتوارثة.
ولعلّ ما يستحقّ التّوقّف عنده هو الوصف، ولعبة الأمكنة التي كانت في معظمها متّسمة بالسّعة والانفتاح على المدى اللانهائي. وهي بذلك، أي الأمكنة، تنسجم مع البنية الكلية للأقاصيص الخمس الطامحة إلى إعادة تأسيس عالم تسوده السكينة والطمأنينة.
ولكن، في المقابل، أمام هذه الأمكنة التي تضج بالحياة، تأتي قوارب الموت لتصفع المتلقي بمكان مشحون بدلالات الخطر والموت، إنّه البحر! صار رمزًا لابتلاع العابرين من الشرق نحو ضفة مقابلة، هو موت من نوع آخر يختلف عن الحرب التي فرّوا منها، أثناء الغرق يعاين الموت عن قرب، وقد يعجز عن صدّه.
هذه المواجع، والرغبات، والأحلام، كلها انسابت على ألسنة الشخصيات التي أتيح لها مساحة واسعة من الحرية في التعبير، فلم يكن هناك راو واحد متفرّد يدّعي معرفة ما تخفيه الشخوص وما تفكّر فيه أو ما تريد أن تفعله، بل تركت الكاتبة لها حرية القول، وذلك انسجاما مع أن تكون الكتابة محاولة تحرير الذات والآخر من كلّ قيد، للعبور نحو فضاءات الإنسانيّة والمحبة.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى