تاريخ الأندلس .. شتات وهروب من جحيم محاكم التفتيش واضطهاد الملوك المسيحيين

محمد الحمامصي
يستعرض كتاب “الأندلس: تاريخ الشتات” للباحث د. محمد الرزاز والصادر عن دار الربيع العربي فصولاً من هذا التاريخ، ويركز على تاريخ الأندلسيين وشتاتهم بعد سقوط مملكتهم الأخيرة بغرناطة في عام 1492، حيث استمر الوجود الإسلامي محاصراً بعد السقوط وحتى بدايات القرن السابع عشر، والذي شهد إقصاء نحو ثلاثمائة وخمسين ألفاً من المسلمين الذين كانوا قد تحولوا قسراً للمسيحية تحت ضغط محاكم التفتيش، وعرفوا باسم “الموريسكيين” أو المسحيين الجدد من أصل عربي أو بربري، وهو مصطلح فيه من الاستهزاء والاستهانة أكثر مما فيه من توصيف لحالتهم الاجتماعية.
يقول د. الرزاز في مقدمته للكتاب “أعتقد أننا جميعًا على دراية بالفتح الإسلامي للأندلس عام 711 هـ. وما تبعه من تعاقُب السلالات والحكام من وُلاة وأُمويين وطوائف ومرابطين وموحدين، وصولًا لبني نصر، وكلنا قرأنا عن النهضة العلمية من خلال علماء بحجم أبي القاسم الزهراوي وعباس بن فرناس وابن البيطار والزرقالي، وكذلك النهضة الإبداعية مع ابن زيدون وابن خفاجة وابن الخطيب، دون إغفال فلاسفة ومفكرين أمثال ابن رشد وابن باجة وابن طفيل، ومتصوفين مثل مُحي الدين بن عربي وأبي الحسن الششتري، والأهم، حكام مستنيرين ورُعاة لعصر ذهبي، وبينهم عبدالرحمن الأوسط والناصر والحكم الثاني والمعتمد بن عباد.
ثم كان السقوط، وما كان سقوط غرناطة سوى بداية مِحنة دامت لأكثر من قرن من الزمان، لكن ذلك لم يكن مشهد النهاية، لأن فصول المحنة لا تكتمل إلا بحلقة مفقودة غابت عن أذهاننا، وهي مشهد الشتات”.
ويلفت إلى أنه لا يمكن أن تمر ذكرى مرور أربعمائة عام على إحدى أكبر المآسي الجماعية في التاريخ دون أن ننتبه. لا يمكن تجاهُل مِحنة أكثر من ثلاثمائة ألف موريسكي تم طردهم وما تبع ذلك من معاناة. أولئك المشتتين، أين ذهبوا؟ أي مدن استقبلتهم؟ كيف كان الاستقبال؟ هل اندمجوا في نسيج مجتمعاتهم الجديدة؟ أي بصمة تركوها لنا؟ أين هم الآن؟ نحن نتحدث عن إقصاء أغلبية متطرفة لأقلية مسالمة، وعن انهيار قيم التعايُش والتآلُف التي مثَّلتها الأندلس ذات يوم. يجب علينا جميعًا أن نعتبر من تلك الأحداث كي لا تتكرر.
في أوائل القرن السابع عشر تسربت أنباء عن مخطط بعض القساوسة لإغراق الموريسكيين المطرودين. اقترح أحدهم أن يتم شحن الموريسكيين في مراكب معطوبة بغية إغراقهم في عرض بحر كان يومًا بُحيرة عربية.
قالوا “الغرق لهم أفضل، فأن يموتوا مسيحيين يُكتب لهم الخلاص، ذلك خير من الوصول لبلاد العرب والبربر والتحول لدين الرُّعاة مرة أخرى”.
كثُرت الحكايات عن موريسكيين باعوا ما استطاعوا بيعه ودفعوا كل شيء لبحَّارة بغرض الهروب من جحيم محاكم التفتيش واضطهاد الملوك المسيحيين، فانتهى الأمر بهؤلاء في أعماق البحر.
ماذا يمنع وغد أوروبي من إلقاء “بضاعته الفاسدة” في البحر بعد أن قبض الثمن؟ ومن يحاسبه؟ أولئك الذين غادروا علَّقوا بين دينين وولجوا جحيمين، جحيم الرحيل وجحيم عدم الوصول. ضاعوا بين خيانتين، خيانة من دفع بهم للشتات والهلاك وخيانة من لم ينصر أخاه مظلومًا ومقهورًا. ماتوا بين مملكتين فما دُفنوا هنا ولا هناك. وأما من بقوا، فحولهم تدور قصص رحلتنا هذه.. قصص الشتات.
ويشير د. الرزاز إلى أن ملوك وملكات قشتالة وليون خرقوا المعاهدات التي كانوا قد وقعوها مع المسلمين، فضيقوا عليهم وأجبروهم على التخلي عن لغتهم وتقاليدهم ومقدساتهم وثقافتهم بأكملها، إلى أن أصدر الملك فيليب الثالث مرسوم الإقصاء النهائي والذي تم بموجبه طرد الموريسكيين بين عامي 1609 و1614.
كان هذا الإقصاء فصل النهاية للوجود الإسلامي في أسبانيا، كما أنه شكل نقطة البداية لشتات الأندلسيين في سائر أنحاء حوض البحر المتوسط، وبخاصة الشمال الأفريقي وصولاً لمصر وكذلك الإمبراطورية العثمانية.
كان لهذا الشتات أثراً بالغاً في ثقافة الشمال الأفريقي، حيث ترك الموريسكيون بصمة فريدة في عمارة المدن وفي التصوف والموسيقى والشعر والأدب والحرف والغذاء، وهو تراث غني وغير معروف للكثيرين على الرغم من أهميته في تشكيل ثقافة مدن بأسرها مثل تطوان وشفشاون (المغرب) وتلمسان (الجزائر) وتستور (تونس) وغيرها الكثير.
يستحضر الكتاب تلك البصمة في تعقبه لموجات الهجرة من المغرب وصولاً إلى مصر، مسلطاً الضوء على الموروث الذي خلفه الشتات والذي ما زال حاضراً إلى يمونا هذا في الشمال الأفريقي، ويستعرض المآسي التي عانى منها الموريسكيون خلال أكثر من قرن من الزمان قبل إقصائهم نهائياً من وطنهم في أسبانيا.
يستحضر د. الرزاز مشاهداً من العصر الذهبي للأندلس، فعلى مدار ما يقرب من ثمانية قرون، تعاقب على حكم الأندلس العديد من الولاة والأمراء والملوك، حيث شهدت دولة الإسلام في الأندلس فترات من الازدهار والتعايش صارت مضرباً للأمثال وأفرزت أجيالاً من المفكرين والفلاسفة والعلماء والأدباء والمتصوفين الذين أثروا الحضارة الإسلامية والإنسانية بشكل عام، نذكر منهم ابن رشد وابن خفاجة وابن عربي والزهراوي وابن البيطار والمجريطي وابن زيدون وغيرهم الكثيرين.
لقد تألقت مدن طليطلة وسرقسطة وأشبيلية وغرناطة، وصارت قرطبة عاصمة للعلم بفضل الخليفة الأموي الحكم الثاني وغيره من الحكام المستنيرين، حيث ضمت مكتبة قرطبة وحدها نحو أربعمائة ألف مؤلف وانتشرت المدارس والمتنزهات والحمامات في جميع أنحاء المدينة.
وعلى الرغم من تلك النهضة، إلا أن تاريخ الأندلس لا يخلو من فترات من التدهور والتعصب، وهو ما يتناوله الكتاب في استعراضه لعوامل الضعف والسقوط بداية بالانقسام والتشرذم السياسي ومروراً بانصراف الحكام عن تدبير شؤون الدولة وإهمالهم لدعائم النهضة التي كان قد أرساها الأمويون الأوائل منذ تولي عبدالرحمن الأول (الداخل) للإمارة.
يتناول د. الرزاز بعض القصص المدهشة حول امتداد أثر الموريسكيين لأماكن غير متوقعة وصولاً لتمبكتو في مالي وغيرها من المدن في حوض النيجر، كما يقتفي أثر بعض الأندلسيين الذين كانوا قد رحلوا للمشرق قبل السقوط من أمثال الزجّال أبو الحسن الششتري والمتصوف محيي الدين ابن عربي والفقيه أبو بكر الطرطوسي وأبو العباس المرسي الذي صار اسمه مرتبطاً بالمدينة التي احتضنته، وهي الإسكندرية، وإن كان أصله من مدينة مٌرسيّة الأندلسية، شأنه شأن العديد من الأئمة والمتصوفين الذين تحمل أحياء المدينة أسمائهم إلى اليوم.
يعمد الرزاز لاستخدام أسلوب يجمع بين السرد التاريخي والقصصي وأدب الرحلات من أجل تقديم عمل شيق ولائق بالقارئ العربي غير المتخصص في تاريخ الأندلس.
يتزامن صدور الكتاب بالتقريب مع المئوية الرابعة لإقصاء الموريسكيين من الأندلس بعد عقود من الملاحقة والتضييق من قبل زبانية محاكم التفتيش ورجال البلاط. عانى الموريسكيون الأمرين وذاقوا ألواناً من الهوان في وطنهم الأم بأسبانيا، إذ وجهت إليهم تهم فساد العقيدة على الرغم من تحولهم للمسيحية، وكذلك تهم التآمر مع الإمبراطورية العثمانية ضد التاج الأسباني والفشل في الاندماج في نسيج المجتمع المسيحي.
لم تذكر التهم تلك الدوافع الحقيقية وراء اضطهاد الموريسكيين وطردهم، وهي التعصب الديني والثقافي والرغبة في مصادرة ممتلكاتهم لصالح خزانة الدولة وحالة الفزع من إمكانية تحولهم لطابور خامس في حالة نشوب حرب أو ضرب حصار على أسبانيا.
لم تدرك أسبانيا حينئذ أنها كانت بصدد طرد عمالة مدربة وعنصر مهم في ازدهار الاقتصاد الأسباني إذ اشتهرت مقولة يتداولها الأسبان إلى اليوم، مفادها أن البستان يصير ذهباً إذا كان البستاني من العرب.
ويقول “لم يكن حال الموريسكيين أفضل في العديد من المدن التي استقبلتهم في الشمال الأفريقي، إذ انتقد البعض عدم ‘تقانهم للغة العربية وتبرج نسائهم وقبولهم للتنصر في أسبانيا، فكان عليهم التأقلم مع واقعهم الجديد والتنقل من موقع لآخر، مع الإبقاء على حلم العودة للأندلس المفقود ذات يوم، وهو ما دفع بأغلبهم لاختيار مدن ساحلية تطل على البحر.
عمل الموريسكيون في العديد من المجالات التي أتقنوها مثل الزراعة والنسيج والعمارة، كما أدخلوا حرفاً وصناعات جديدة، وتحول جزء منهم للقرصنة ولضرب مصالح أسبانيا في البحر والساحل انتقاماً لما فعلته بهم.
ويشهد حوض البحر المتوسط في يومنا هذا موجات متلاحقة من اللاجئين والمهاجرين ما بين فارين من جحيم الحروب والاضطهاد والباحثين عن فرص للعمل والترقي، مما يجعل من قضية الشتات مجازاً معاصراً لحالة إنسانية تتكرر إذ يعيد التاريخ نفسه كما قالها ابن خلدون منذ قرون خلت، فهل نعتبر من دروس الماضي؟”.
يذكر أن د. محمد الرزاز (القاهرة 1976) هو أستاذ تاريخ الفن والإدارة الثقافية وتراث حوض البحر المتوسط بجامعة كاتالونيا الدولية ببرشلونة منذ عام 2010، كما يعمل بالأمانة العامة للاتحاد من أجل المتوسط منذ عام 2013.
قدم الرزاز العديد من المحاضرات والدورات حول تاريخ الحضارة وتراث البحر المتوسط والأندلس في مصر وأسبانيا وإيطاليا والدنمارك وسلوفينيا، كما أن له العديد من المقالات والأبحاث المنشورة من قبل مؤسسة التراث الأندلسي في أسبانيا.
قام الرزاز بزيارة العديد من المدن لدراسة التراث الأندلسي والموريسكي، بداية بموانئ الخروج في فالنسيا الأسبانية وصولاً لمدن سلا وتطوان وشفشاون ووهران وتلمسان وتونس وتستور والإسكندرية ودمشق.
(ميدل ايست اونلاين)