طغاة لكنهم شعراء

نصيرة تختوخ

زهور شرٍّ شيقة جمعها الكاتب الهولندي بول دامن ملفوفة بسيرٍ ذاتية ملطخة بالدّم، مستلهما من بودلير عنوان كتابه مع إشارة بالعبارة “قصائد دكتاتوريين”. قدّم الكاتب شيئا مختلفا عن ديوان الشاعر الفرنسي لكنه ذكّر ضمنيا بقول الشاعر “لا عظيم بين الناس إلاّ الشاعر والقسّ والجنديّ. الإنسان الذي يغنّي ويبارك ويضحّي حتى بنفسه. الباقي موجودٌ للسّوط”.

وسمح بالتفكير في التقارب الموجود بين الدكتاتور والشاعر. ففي اللغة الهولندية ولغات جرمانية أخرى تشتق كلمة “ديختر” (الشاعر) من نفس الأصل الذي تشتق منه كلمة دكتاتور. كلتا الكلمتين تعودان للفعل اللاتيني المتعلق بالإملاء (أملى، يملي..) دكتاري الذي بدوره يعود لفعل القول (قال، يقول..) دكيري ، مع العلم أن الدكتاتور في روما القديمة كان المُعيّن في أوقات الطوارئ من مجلس الشيوخ للحكم وإملاء الأوامر لفترة محددة .الأمر الذي تطور فيما بعد بأن تحوّل الدكتاتور إلى الحاكم ذي القبضة الحديدية المستبد والمنتقم.

من روما لا نجد للأسف في الكتاب نماذج من قصائد ليوليوس قيصر مع أن الرجل الذي أتى ورأى وانتصر كتب على ما يبدو شعرا، لم يشأ له الإمبراطور أغسطس، الذي خلفه، أن يستمر. فقد منع نشره والاستمرار في تداوله. لكننا من حسن حظِّ روما نجد القليل من الأبيات وإيجابية ثقافية عن الهائل نيرون. وحسب ما يقدمه الكاتب فإنّ هذا الأخير الذي عُرِفَ عنه حبّه للغناء أحبّ الشعر واحترم الشعراء. فلم يكتف بتمويل جيل من الكتاب والشعراء بل كانت له مجالس خاصّة مع الشعراء يوليها اهتماما ويقتطع لها وقتا من وقته الثمين. فنيرون أقام مهرجانا للشعر تمنح فيه جوائز.

يعترف الكاتب بأنّ الكثير ممّا كتبه نيرون ضاع والأبيات التي قدمها لا تتجاوز سبعة أسطر، لكنه يستدل بشواهد تاريخية عن أناقة ما كتب، ومنها أنّ شعره بقي متداولا لفترة بعد مماته حسب ما أورده تاسيتُس. نُذكِّرُ بأنّ الحمّامات التي عرفتها روما في عهد نيرون توفرت على الصور والكتب وحلقات الشِّعر وبأنّ آخر كلماته المتحسرة كانت “أيّ فنان كبير سيضيع معي” (يقصد نفسه طبعا وأن فنانا كبيرا سيختفي باختفائه).

يقع نيرون في كتاب بول دامن بين النبيّ داوود وهارون الرشيد اللذين يصنفهما الكاتب كدكتاتوريين أيضا ممّا يحتمل الجدل بشأنهما شأن تصنيف أسامة بن لادن وماكسيميليان دو روزبيير مثلا. كما يمكن التساؤل حول جواز تصنيف مزامير داود أو بعض النصوص المختارة في الكتاب للقذافي مثلا أو جنكيز خان على أنّها شعر.

أظن أننا لن نختلف كثيرا بشأن شاعرية السطور التالية “كغمامة/أريد ذات صباح/أن أُوقَظ فجأة/أن أقوم خفيفا جدًّا/متحررا من نفايات المادّة/أُحِسّني قريبًا/من كلّ ما هو محبوب/روحي متحرّرة/ في طريقها إلى ضفاف خالدة”، وهي آخر قصيدة للدوتشي (موسوليني) وقد كتبها لعشيقته كلارا بيتاتشي. الفاشي رقم واحد والنازي رقم واحد والأخ رقم واحد بول بوت توحدوا في الدكتاتورية ومحاولاتهم الشعرية وإن تفاوتوا في جودة شعرهم وعدد ضحايا بطشهم.

من أرقّ ما ترك الفوهرر وقد كان حبّه لوالدته معروفا بالطبع “عندما تتقدم أُمّك في السّن/وتكون أنت أيضا كبرت/عندما يصير ما كان في الماضي خفيفا/ثقيلا بالنسبة إليها/عندما لا تستطيع عيناها الطيبتان الواثقتان/أن تنظرا كما في السابق/عندما تتعب قدماها/لا تحتملان ساقا ولا حصى/ اسندها بذراعيك الاثنتين/ورافقها بشجاعة فرحة/لأن الساعة ستأتي لترافقها/للمرّة الأخيرة مضطرا باكيا!”.

بين العشق والتصوف نجد سليمان القانوني والخميني. فشعر السلطان التركي امتزج فيه هيامه بروكسلانا والتصوف. نقرأ له مغازلته لها بـ”عرشي في الوحدة، كلّي، حبيبتي، بدري المكتمل، صديقتي، حميميتي، اكتمالي، شاه الجمال، سلطانتي/حياتي، وجودي، علة جنتي، خمر شبابي، ربيعي، الفرح، اللّيل والنهار، حبيبتي الوردة الضاحكة، وأترك هذه الحفلة فنهايتها سيئة جدًّا/لا ينفع للحبّ الخالد إلاّ الصلاة”.
جاره الإيراني ربما يوغل في قاموس العشق والتصوف أكثر فنجده في قصيدته “العيون المحمومة” يقول “حبيبتي! إنّي معلّق بالخال على شفتيك!/رأيت عينيك المحمومتين، وصرت بدوري مريضا!/.. حزن العشق يضع روحي في النار واللهب../افتحي أبواب الحانة ليل نهار/لأنّي مللت وتعبت من المسجد والمدرسة/لقد مزقتُ ثوب الزهد المنافق عن جسدي/ولبست رداء الباحث عن الحانة وصرت واعيا../اتركيني في الذكرى الحلوة للمعبد/أنا الذي استيقظت على يد ربّ الخمارة”.

قد لا يتسع الموضوع للكثير من النماذج الشعرية فنقفز على رباعيات هيروهيتو وهوتشي منه والأبيات المعروفة للرئيس الراحل صدام حسين لنتوقف وقفة ربيعية مع الزعيم الذي يرقد في تابوت من الكريستال يتحمل زلزالا بثماني درجات على سلم ريختر. بمزاج ورديٍّ يكرم ماو تسي تونغ إزهار أشجار البرقوق فيقول “هذه الفتاة الشهية لا تتوق لوحدها للربيع/لكنها راضية لإعلانها عن الربيع/عندما تكون الأزهار الجبلية في قمة إِزهارها/تبتسم هي وسط روعة الألوان”. من يشعر بالغرابة حينما يصادف رقّة أو لجوءًا للطبيعة أو للفضيلة في شعر الطغاة ينسى ربّما أنّهم كانوا ينهلون من ثقافات بلدانهم العريقة وآدابها وأنّ خلفية بعضهم أو دراسته كانت دينية كما هو الحال مع ستالين.

إذا تأمّلنا ما للشعر من سطوة ومكانة فإنّنا لا نجده فقط يناسب المصابين بجنون العظمة لأنهم يحبون نيل الإعجاب والإخضاع والسيطرة بل إنّه قادر على منح فرصة فريدة لا تتيحها حتى أرفع المناصب السياسية ألا وهي الخلود.

سيرة إيفان الرهيب أو موغابي أو عيدي أمين، التّاريخ الدمويّ لتشاوسيسكو أو رادوفان كارادزيتش، ممارسات فرانسوا دوفالييه (بابا دوك) أو إليزابيث باثوري التي يكشفها الكاتب تفضح الآلام الإنسانية ومساوئ القبضة الحديدية ولو بدعوى المعتقد الأيديولوجي الذي يبدو في خدمة الوطن والقومية. لا يُبَلْسِمُ أيّ بيت شعري الحالات المأساوية التي عاشها الإنسان في ظل نظام ظالم ومجرم ولا تستطيع أيّ قصيدة مهما امتلأت بالحماس والنوايا الطيبة أن تغفر إرهاب الإنسان وقتله ظلما وعدوانا، أو هضم حقوقه وإعاقة تحقيقه لرسالته وعيشه الكريم.

يمكن هنا الاستشهاد بنموذج دكتاتور كبير على بلد عدد سكّانه يناهز اليوم خمسة ملايين نسمة: التركمان باشي صفر مراد عَطِيَّفتش نيازُف (صابر مراد) نيازوف، كتب شعرا مليئا بتمجيد القومية وأصدر ديوانًا عنوانه “مُبارك هو شعبي” إلى جانب كتابه الشهير “الروح نامه”، الذي كان إجباريا فلم تخل منه المكتبات والمؤسسات التعليمية بل وكانت الامتحانات ومباريات التوظيف تسائل الممتحن عن محتواه. لكنه أغلق الكثير من المستشفيات وحضّ على الرياضة وتعاليم أخرى بدت له صحية، فكانت النتائج مثيرة للأسى.

معدل عمر مواطنيه تدنّى إلى الستين عاما وصار لا يقارب الشيخوخة التي اعتبرها الرئيس تبدأ في سن الخامسة والثمانين (85)؛ بل وحتى أقلّ من السن الذي تبدأ فيه مرحلة العمر الملهمة والتي اعتبرها تبدأ في الثانية والستين وتنتهي في الثالثة والسبعين. هذا ناهيك عن ارتفاع ملحوظ لنسبة عدد الوفيات بين المواليد الجدد في بلده بالمقارنة مع بلدان العالم ونسب أخرى بعيدة عن أيّ مجد وسؤدد. نسخة من “الروح نامة” عرفت طريقها إلى الفضاء الخارجي في قمر صناعي روسي وكتبت الصحافة التركمانية عن الحدث عام 2005 “الكتاب الذي غزا قلوب الملايين على الأرض يغزو الفضاء الآن”، ومن بين ما كتبه الرئيس التركماني الراحل الذي كان يعتبر نفسه رئيسا مدى الحياة:
“إنه التركماني

إنه التركماني

الشجاع الحقيقي، الشجاع فكّر، تأمّل

إنه التركماني الذي يجعل تركمانستان عظيمة

اذهب إلى ماضيك وزُرْ المستقبل

إنّه التركماني بنفسه الذي يجعل تركمانستان عظيمة

التركماني.

التركماني الصبي أسد، ابن الأسدِ أسد،

اللاّإرادة والتهرب من المهام عار.

هؤلاء الذين يركضون من أجل الآخر ينتصرون

إنه التركماني الذي يجعل تركمانستان عظيمة.

تعلّم الدروس من الماضي، كن مثالا للمستقبل

لتفخر المناخات السبعة عندما ترى التركمانيّ

ليكن الطريق الذي يتبعه التركماني طريق العالم

إنه التركماني نفسه الذي يجعل تركمانستان عظيمة

التركماني.

حاول أن تشبه الحكيم فِراغي وقورقوت

حاول أن تكون ندًّا للشُّجاع أرب أرسلان، جغري بك وطغرل

قبيلة أوغوز خان لا يلائمها التأخّر

إنّه التركمانيّ نفسه الذي يجعل تركمانستان عظيمة

إنّه التركماني”.

اشتغل بول دامن على كتابه لما يقارب الثماني سنوات وتعاون مع العديد من المترجمين لكشف طلاسم القصائد متعددة اللغات ليقدّم لنا بعناية “أزهار شرٍّ” جديدة ناسب الكتاب أن يرمز لها بصورة ورودٍ حمراء في حذاء عسكريّ ويبقى التساؤل والتخيل مفتوحا عن علاقة الدكتاتور بالشاعر الذي وصفه بودلير بأمير الغيوم الكثيفة الذي تعيقه أجنحة العملاق، التي يحملها، عن المشي.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى