بيتي في دمشق رؤية من الداخل للكاتبة البريطانية ديانا دارك

ابراهيم قعدوني

لم يكن في ذهن ديانا دارك مؤلّفة كتاب “بيتي في دمشق – رؤية للأزمة السورية من الداخل” الصادر بالإنكليزية عن دار هاوس للنشر سنة 2014 والذي صدرت طبعته الثالثة هذا العام، خطّة مسبقة للخوض في تفاصيل الأحداث الدائرة في سوريا منذ ربيع عام 2011، إذْ أنّها كانت في الأصل بصدد إعداد كتاب إرشاديّ حول السفر إلى سوريا وذلك بالتعاون مع دار نشر عالمية متخصصة في كتب الرحلات والإرشاد السياحي.

غيرَ أنّ “وقوعها في غرام هذه البلاد” التي زارتها لأول مرّة سنة 1978 حين كانت طالبة تدرس اللغة العربية في مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية-ميكاس، ومن ثمّ عودتها إليها مرّة أخرى لإعداد الكتّاب في سنة 2005 واستيقاظ حلمها القديم باقتناء بيت عربيّ قديم وترميمه قادها إلى تعاين بنفسها تحوّل الثورة الشعبية المشرِقة إلى حربٍ أهلية طاحنة تحت وطأة العنف الأعمى الذي أنزله النظام السوريّ بأولئك الشبّان الذين أشعلوها.

وكما تقول كل تلك الأسباب دفعت بها إلى وضع هذا الكتاب الذي يشبه وثيقة تضم بين دفّتيها حكايةً لثورة السوريين ومجتمعهم “بعيداً عن التناول السطحي لوسائل الإعلام” وبتفاصيل “لن تطالها الصحف” كما تقول في مقدّمة الكتاب الذي تُهديه إلى أمّها التي “رحلت بهدوء وطمأنينة” أثناء تأليف الكتاب ولحمزة الخطيب الذي قضى بمأساوية، “إلى أمّي وإلى حمزة الخطيب، على اختلاف موتَتيهما، أهدي هذا الكتاب“، نقرأ في الإهداء.

عبر خبرتها في أدب الرحلات تقدّم دارك سرداً تفصيليا ممتعا لحكاية سوريا بلسان أجنبيّ على دراية واسعة بتراثها ولغتها وثقافتها وبتعاطف إنساني نبيل مع الشعب السوري الذي بلغ أقصى درجات اليأس بفعل سياسات النظام وصمت العالم، ولعلّ أبرز ما تشير إليه هنا هو موقف الأغلبية الصامتة التي لم تحسم أمرها مستشهدةً بمقولة الإمام الغزالي حول الحمار الذي قضى جائعاً أمام حيرته بين جزرتين أيّهما يأكل!

تعود علاقة دارك بسوريا إلى زمنٍ أبعد من أحداث الثورة التي عايشتها عن كثب، إذ تشكّلت انطباعاتها الذكية والدقيقة حول طبيعة النظام السياسي في سوريا منذ زياراتها المتكررة انطلاقاً من مكان إقامتها في لبنان أيام دراساتها اللغة العربية إبّان الحرب الأهلية، وكما تذكر دارك فإنّها لاحظت مذاك الوقت كيف استولى الهاجس الأمني للنظام السوري على مخيّلته وعلى أسلوبه في الحكم وإدارته الشؤون اليومية للبلاد، وكيف تحوّل ذلك الهاجس إلى روتين يحكم دوائر البيروقراطية في المؤسسات الحكومية.

فعلى الرغم من مخاطبتها لوزارة السياحة السورية لمنحها موافقة للقيام بجولة استكشافية للمعالم الأثرية بهدف إعداد بحث حولها، إلاّ أنّ الأمر استغرق أكثر من خمسة أشهر لحيازة تلك الموافقة بعد اضطرارها لمتابعة المسألة بنفسها في ردهات المباني الحكومية التي تعجّ بالفوضى والمحسوبيات والتي تحكمها مركزيةٌ مريضة تحاكي مركزية الاستبداد الحاكم، حتّى أنّها وبفضل إلمامها الكبير باللغة العربية تسجِّل حَرفيّاً بعض الكلمات المفتاحية التي اعتادت سماعها لدى مراجعتها دوائر وزارة السياحة السورية آنذاك، إذ نقرأ بأحرف إنكليزية كلمات من قبيل “بوكرا” و”إن شا الله” كما أنّها تورد الكلمة الأكثر شهرة في سوريا طيلة عقود من حكمِ الأسد الأب وابنه وهي كلمة “مخابرات” إلى جانب كلمة أخرى لا تقلّ شهرةً عنها وهي “ممنوع“.

تعود الكاتبة إلى سوريا التي انتقلت من حكم الرئيس الأب إلى حكم الابن لتلاحظ كيف كانت البوسترات الضخمة التي يبتسم فيها بشار الأسد لجمهوره ويرفع يده ملوّحاً لهم تشغل واجهات المباني العالية في دمشق وكذلك في وسط المدينة القديمة، وكيف بدأ استئثار النخبة المقرّبة من السلطة يلتهم الفضاء العام بدءاً من لحظة الوصول لمطار دمشق حيث تستقبلك سيارات الأجرة التي يملكها ابن خال الرئيس رامي مخلوف والتي لأجلها طُرِدَ السائقون الآخرون من محيط المطار، مروراً بالمحلات والأسواق التجارية الفخمة التي احتوت في واجهاتها ساعاتٍ يصل سعر بعضها لما يزيد عن 10 آلاف دولار في الوقت الذي كانت الهوّة المجتمعية تتفاقم في البلاد بفعل جَشَع الطغمة الحاكمة، إذ تضاعف ثراء هؤلاء مقابل اتّساع الطبقة المسحوقة والفقيرة وتلاشي الطبقة الوسطى، ولا تقتصر المفارقات التي ترصدها الكاتبة على هذا الجانب، إذ تلازم ثنائية الظاهر والباطن عدّة فصولٍ من الكتاب الذي توزّع على 19 فصلاً استهلّت كلّ فصلٍ منه بقول مأثورٍ يمثّل رمزية الفصل ودلالاته في عرضٍ ممتع وزاخر بالمعلومات والتفاصيل التاريخية التي تربطها المؤلفة بأسلوبٍ شيّق بدلالاتها الراهنة.

ليست سوريا بالغريبة عن الثورات، تقول دارك، فعندما رُسِمَت حدودُها لأول مرّة تحت الانتداب الفرنسي، انتفض السوريّون ضد الفرنسيين فيما عُرِفَ بالثورة السورية الكُبرى سنة 1925. كانت ردّة فعل الفرنسيين تشبه ردّة فعل بشار بما لا يقبل اللّبس، إذْ شنّوا حملة قصف مدفعي سوّت أحد أحياء دمشق القديمة بالأرض بشكل كامل، وهو ببساطة نفسُ الحيّ الذي يُعرَفُ اليوم باسم حيّ الحريقة -نسبةً لتلك الواقعة- ولم يكتفِ الفرنسيون بذلك القدْر، بل قتلوا الآلاف وعلّقوا الجثث ونفّذوا أحكام الإعدام علناً في ساحة المرجة المركزية لتكون عبرة، كما أذكوا الانقسامات الطائفية على قاعدة “فرّق تسُد” بينما كانت دعايتهم السياسية تقول إنّهم ضامنو السلام النّبلاء. “
اتّبَع بشار النموذج الفرنسي واصفاً المُتظاهرين السلميين ‘بالمتطرفين الطائفيين’ و’الإرهابيين الأجانب’ الذين أرادوا تدمير وطن السوريين، وهؤلاء بحاجةً لأن نُلقّنهم درساً قاسياً وإلاّ فإنّ أبواب الجحيم ستُشرَع وسوف تستولي حكومة إسلامية متعصّبة على البلاد لتُبيدَ أقليّات سوريا الثمينة، هذا ما راحت تردّده شاشة التلفزيون الرسمي للنظام، قدّم الأسد نفسه كمُخَلّصٍ أوحد لمستقبل سوريا بأجهزة أمنه القوية وقوّاته المسلّحة التي يهيمِن عليها”.

للجامع الأمويّ وهو قلب المدينة الروحيّ كما تسمّيه، حضوره المركزيّ في الرواية كمثالٍ حيّ على التعددية الثقافية والدينية التي عرفتها سوريا طيلة قرون، إذ أنَّ دمشق، المدينة المأهولة منذ 5000 عام لطالما احتضنت نموذجاً فريداً للتعايش بين أتباع الديانات السماوية الثلاث مشيرةً إلى تشاركه من قبل المسلمين والمسيحيين إبّان الفتح الإسلامي لدمشق وطيلة سبعين سنةٍ لاحقة، وبالإمكان حتى اليوم قراءة العبارة المحفورة باللغة اليونانية فوق بواّبته «مُلْكك مُلك كل الدهور، أيّها المسيح، وسلطانك في كل دورٍ فَدَوْر». وفي معرض رثائها لما لحِق بمدينة حلب، تقول دارك بأنّ غياب المئذنة السلجوقية للمسجد الأمويّ عن أفقِ حلب أشبه باختفاء ساعة بيغ بن من أفق لندن.

يُعتَبَرُ البيت العربي القديم الذي اقتنتهُ الكاتبة في دمشق القديمة، وهو البيت الذي يُعرَفُ ببيت البارودي فضاءً لحكاية الكتاب، وإلى جانب افتتانها بملامحه المعمارية المدهشة فإنّها تسجّل إعجابها بمعمارية المجتمع السوري القادمة من عمق الحضارات القديمة قدم التاريخ، وقد أمضت دارك قرابة ثلاثة أعوام في ترميم البيت بمساعدة أصدقاء وحرفيين سوريين هُم أبطالُ روايتها الذين أطلقت على بعضهم أسماء مستعارة حرصاً على سلامتهم كما تقول، فمن رمزي الفيلسوف -كما تدعوه- وهو الدليل السياحي الذي رافقها في رحلتها بتكليف من الحكومة، مروراً بباسم، المهندس المعماري الذي صادف وأن التقته في أحد البيوت العربية في المدينة القديمة إلى “أبو أشرف” الكهلُ الطيّب الذي حوصِرت بلدته في الغوطة وقُصِفَت بالسلاح الكيميائي، إلى الشبّيح الذي استولى على البيت لاحقاً بالتآمر مع المحامي الذي وكّلته الكاتبة (عادت دارك إلى دمشق وواجهتم بمنتهى الجرأة واستعادت بيتها منهم)، يُقلّب الكتاب أوجه الحياة السوريّة بشخوصها المتناقضة منذ فجر التاريخ وحتى اللحظة الراهنة.
عن الكاتبة

بدأت ديانا دارك مسيرتها المهنيّة في مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية في شلتنهام، وقد تركّز اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط، وخلال 30 عاماً وضَعَت دارك 16 دليلاً إرشادياً عن المنطقة كدليل برادت لشمال قبرص وآخر لِعُمان ولسوريا أيضاً، وتعدّ كُتُبُها مراجع هامّة للمنطقة، كذلك فهي وقد وصف الملحق الأدبي في صحيفة التايمز كتابها الجديد “بيتي في دمشق” بأنه من أفضل كتب أدب الرحلات التي تتمتع بإيقاع الرواية الشيقة وبشمولية تاريخية موسعة تقدّم المعلومات القيمة عن سوريا وعن العرب ولغتهم وعاداتهم وعن الفنون والعمارة الإسلامية والكثير من المعلومات الثرية الأخرى.

الجدير بالذكر أنّ 15 بالمئة من إيرادات مبيعات الكتاب الخاصة بالناشر و15 بالمئة من حصّة الكاتبة تذهب لصندوق دعم التعليم العالي للسوريين بإدارة مؤسسّة سعيد للتنمية، كما أنّ دارك لا تفوّت فرصةً لدعم السوريين وقد حوّلت بيتها في سوريا بعد اكتمال ترميمه إلى ملجأ لأصدقائها السوريين الذين شرّدتهم الحرب.
كاتب سوري مقيم في لندن

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى