بطل ياسمينة رضا يخنق زوجته عبثياً

أنطوان جوكي

التراجيديا هي مسرحية هزلية بالمقلوب، وفقاً للكاتب المسرحي الفرنسي جورج فيدو. ولا شك في أن الكاتبة الفرنسية (من أصول إيرانية) ياسمينة رضا، الناشطة في الميدان المسرحي، تعرف ذلك جيداً، كما يظهر من روايتها الأخيرة «بابل» التي صدرت حديثاً عن دار «فلاماريون» الباريسية وحصدت قبل أيام جائزة «رونودو» العريقة.
وفعلاً، نضحك ونحزن مراراً لدى قراءة هذه الرواية التي تنطلق أحداثها خلال سهرة بورجوازية في إحدى ضواحي باريس بين أصدقاء على مشارف الشيخوخة، وتفضي بسرعة إلى جريمة يرتكبها رجل خانقاً زوجته فور عودتهما إلى المنزل لسببين تافهين: اختلاف في وجهتي نظرهما حول موضوع تربية الدجاج، ورفْس الزوجة القط الذي يعيش معهما من أجل إخراجه من غرفة النوم.

ولسرد قصّتها، تضع رضا منذ الصفحات الأولى الديكور الذي تدور فيه معظم أحداث الرواية: شقّتان، الواحدة فوق الأخرى، ودرج المبنى ومصعده. وفي هذا الديكور تقدّم شخصياتها الرئيسة: جان لينو، وهو إيطالي رقيق يعمل في متجر لبيع الأدوات المنزلية الكهربائية، زوجته ليدي المغنية والناشطة في مجال حقوق الحيوان، جارتهما إليزابيت الباحثة في معهد «باستور» العلمي في باريس وزوجها بيار.
إليزابيت التي تؤدّي دور الراوية هي التي ستنظّم السهرة المذكورة في مناسبة حلول «عيد الربيع». سهرة يمضي جميع المدعوين خلالها وقتاً ممتعاً، وينجح جان لينو في إضحاكهم عبر سخريته اللطيفة من زوجته ليدي التي لا تأكل الدجاج إلا إذا كان قد تربّى بحرّية خارج الأقفاص. ولكن بعد منتصف الليل، تستيقظ إليزابيت وزوجها بيار على صوت طرقات خفيفة على باب شقّتهما. إنه جان لينو مجدداً الذي نزل من شقّته لإخبارهما بأنه خنق ليدي إثر مجادلة بينهما.
فقدت إليزابيت قبل أيامٍ قليلة أمّها التي لم تكن تتّفق كثيراً معها، ونجدها تتحمّل أختها الصغرى التي تراكم العلاقات العاطفية التعيسة. ولتلطيف واقعها اليومي المملّ، ترتبط مع جان لينو بصداقة رقيقة وعفيفة مبنية على شعور مشترك بعزلةٍ وعدم انتماء إلى هذا العالم وأشيائه، وفي الوقت نفسه على رغبة في عدم الرضوخ لهذا الشعور، تماماً مثل تلك الشخصيات الضائعة التي صوّرها الفنان روبرت فرانك في كتابه الشهير «الأميركيون» الذي تعود الراوية إليه مراراً للتعليق على صوره.
باختصار، تستعين رضا بقصّة تصلح لخبر عام في جريدة، وبشخصيات رقيقة ومؤثّرة في مواصفاتها العادية، للتأمّل في غرابة الأشياء التي تحيط بنا، وفي حركة الحياة اليومية التي تدفعنا إلى الاعتناء بمظهرنا والبحث عن علاقات وروابط مع الآخرين، وفي الوقت نفسه، إلى قتل أقرب الأشخاص إلينا خلال نوبة جنون. ولتسيير تأمّلاتها هذه واستطراداتها الغزيرة، الطريفة تارةً والقارصة في سخريتها تارةً أخرى، تلجأ إلى الملموس والواقعي، وإلى أسلوبٍ كتابي حاد يساعدها برشاقته وقدراته التعبيرية الكبيرة على تعرية مفاهيمنا الفارغة وعبثية وجودنا في هذا الكون.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن رضا توحي بما تريد إيصاله إلى القارئ أكثر مما تسعى إلى الإفصاح عنه. من هنا ذلك الإحساس بحزنٍ وألمٍ يكمنان لنا بصمتٍ على طول صفحات روايتها التي لا نبالغ في اعتبارها رواية الضياع بامتياز. ضياع قصة حب أولى عرفتها إليزابيت في شبابها ولم تشفَ من تجربتها الجميلة وحيويتها، وضياع انتمائي بالنسبة إلى جان لينو الذي فشل في التأقّلم في فرنسا بسبب ماضي والديه الإيطاليين المأسوي.
وهذا ما يقودنا إلى الموضوع الرئيس في «بابل»، ونقصد المنفى. ففي مجتمع فرنسي يهاب أفراده اليوم توافُد آلاف اللاجئين إليه، تهمس رضا في أذن قارئها بأن هذا المنفى هو في قلب كل واحدٍ منا. منفى من الذات لأنه «لا يمكن أن نأمل بأي استمرارية في هذا الوجود». منفى من الآخرين لأن «اللغة لا تترجم سوى عجزها عن التعبير»، على رغم قدرتها على قول بعضٍ من أسرارنا المخفية ومخاوفنا الباطنة التي لا نرغب في مشاركتها مع أحد. ومنفى من الوطن الأم الذي يعكسه وضع جان لينو وتدلّل عليه بقوة فقرة من مزامير النبي داوود كان يقرأها والد هذا الأخير له كل ليلة قبل أن ينام: «على أنهار بابل، هناك جلسنا، بَكَيْنا أيضاً عندما تذكّرنا صهيون».
وهنالك أيضاً المنفى من سنيّ الطفولة والشباب الذي تعانيه جميع شخصيات الرواية التي تجاوزت سنّ الستين وتبدو مندهشة من إيجاد نفسها في هذه المرحلة المتأخّرة من العمر. ولهذا نراها متلفة، تعيش في ذكرياتها وتحاول الاعتناء بشكلها وملبسها أملاً بعيش قصة حبٍّ جديدة وأخيرة. ولا ننسى الضاحية الباريسية التي تسكنها هذه الشخصيات وتشكّل أيضاً منفى بأجوائها الباردة وحدائقها المهملة وقططها العجوزة وظروف العيش فيها.
وخلف هذا الشعور بالنفي والغربة، يتسلل شبح الموت إلى داخل الرواية، غالباً في شكلٍ خبيث وخفي: «لا أحد يحذّرنا من المحتم. لا يعبر أيُّ ظلٍّ خاطف وبيده منجل»، تقول إليزابيت التي تبدو مع ذلك غريبة عن الموت وفاقدة لأي شعور تجاهه حين تموت أمّها: «توفّيت أمي منذ عشرة أيام. لم أكن أراها كثيراً. لا شيء يُذكر سيتغيّر في حياتي سوى أنه كانت لدي أم في مكانٍ ما على هذه الأرض»، وأيضاً حين تعتني مع جان لينو بجثّة زوجته ليدي، قبل أن تعيره حقيبة سفر حمراء من أجل نقل الجثة من المنزل إلى مكانٍ آخر وإبعاد شبهة القتل عنه.
وبالتالي، تُقابل الروائية المأساة والإحساس بالمنفى والموت بلامبالاة رقيقة تتميّز بها جميع شخصياتها، كما لو أن شيئاً داخل هذه الشخصيات يقيها من العتمة المطلقة، شيئاً غامضاً أو معرفة بأن دورها سيحين عاجلاً أم آجلاً وبأنها في النهاية لا تزن كثيراً في هذا العالم: «ما أهمية ما نحن عليه، ما نفكّر به، وما سنكونه؟ نحن في مكانٍ ما داخل هذا المشهد، إلى أن يأتي اليوم الذي نتوارى فيه».
لكن أكثر ما يفتننا في هذه الرواية، ويشكّل قيمة مركزية فيها، هو قدرة رضا على استخلاص أعمق الأسئلة من أحداثٍ عادية وأفعال يومية بسيطة، ومهارتها في تصوير تلك الأشياء الصغيرة، العابرة، المفرحة تارةً والمحزنة تارةً أخرى، التي تشكّل مجتمعةً حياة ما.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى