العالم تحت مراقبة الاستخبارات الأمريكية

 

حميد عقبي

لسنا فقط مع مجرد فيلم سينمائي يروي قصة إدوارد سنودن المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأمريكية، الذي فرّ إلى روسيا عام 2013، معلنا فضيحة سياسية بتسريب كمية هائلة من المعلومات عن تجسس الاستخبارات الأمريكية على الهواتف والإنترنت داخل أمريكا وخارجها، بل نعيش دراما إنسانية ونقاشا أخلاقيا حول معنى الوطنية ومعاني البطولة، فهل البطل الوطني ذلك الشخص الذي يخدم السلطة؟ وهل ما فعله سنودن خيانة؟
فيلم سنودن للمخرج الأمريكي أوليفر ستون، يقدم لنا سنودن، شخصية عبقرية في مجال البرمجة، وبعد فشله في الالتحاق بالقوة الخاصة يتقدم للخدمة في وكالة الأمن الوطني، ثم يقدم خدمات كبيرة ويخترع برامج عديدة، لكن بعضها تستخدم بطريقة بشعة ويكتشف أنه يشترك في جريمة التجسس التي استهدفت آلافا من الأشخاص في أمريكا وخارجها، لذلك يقرر الهرب والتضحية بحياة مريحة، ويكشف سنودن للمواطن الأمريكي ما تفعله حكومته.
يجسد الممثل الأمريكي جوزيف جوردون ليفيت، دور سنودن ببراعة، وقد ذهب للتعرف إلى سنودن لكي يفهم الشخصية ويعطيها حقها، لأن تجسيد شخصية حية ومعاصرة ليس سهلا، والفيلم حسب رأي المخرج لا يميل إلى الخيال ولا يحبذ هذا المصطلح لوصف فيلمه، ويرى أنه ليس مجرد دراما عابرة، بل وسيلة لجعل تفاصيل القضية أكثر وضوحا للجمهور العام.
أوليفر ستون يعكس بصدق وجهة نظر إدوارد سنودن بعد أن التقى به عدة مرات ولم يكن سنودن متحمسا لفكرة صنع فيلم يتحدث عن قضيته، لكنه سرعان ما أدرك أن هذا هو أفضل وسيلة للتحدث وسرد تفاصيل أكثر لتصل إلى الناس، خاصة أن بعض وسائل الإعلام صنعت منه جاسوسا.
تفنن المخرج في رسم صورة رائعة لهذا الشاب الذي يبلغ من العمر 33 سنة. المسألة ليست خلق بطولة خارقة ولا صناعة رمز، ولكن المخرج يميل إلى عرض هذه الشخصية كطفل تتوهج فيه البراءة والعفوية وحبه لوطنه، أي قبل كل شيء هي الجانب الإنساني.
يأتي المسار الفيلمي مزخرفا بلمسة من الرومانسية ولا يقودنا المخرج في طريق جاف إلى لائحة اتهام سنودن، الذي هو اليوم من وجهة نظر البعض يمثل خطرا ويهدد الأمن القومي، فهناك من لا يريد فهم رعب ما يحدث، حينما يتم اخترق خصوصيتنا بوقاحة ويتحول جهاز الكمبيوتر الخاص بنا إلى وسيلة تجسس، الكرة الآن في ملعبنا، والفيلم يقدم دعوة إلى كل مواطن كي يتخذ موقفه.
سنودن ليس الطموح ولا الجشع، وكانت لديه الفرصة للتحول إلى بطل رسمي والحصول على مميزات مادية مغرية. هذا هو الشاب كغيره من الشباب العاديين الذين اتخذوا قرارات غير عادية، والتخلي عن العمل والأسرة والوطن بعد إذاعة هذا السر.
روعة الفيلم تكمن أيضا في محدودية البطولة وموضوعية الطرح دون مبالغات، أو فانتازيا خيالية، نعيش رحلة داخلية في شخصية ترى نفسها عادية، بهذا منح المخرج فيلمه الإيقاع الصحيح، وأعطى الشخصية ما يناسبها من حجم.
ستون تمكن ببراعة خلق عناصر مشوقة وعاطفية لمعرفة إدوارد سنودن، ونعيش مع صديقته ليندساي (شايلين وودلي) هذه الفتاة اللطيفة جدا (التي ستنضم معه في منفاه في موسكو)، هذه الفتاة كانت تحلم بحياة مستقره وحبيب يهتم بها، مهنة سنودن حولت بيتهم إلى جحيم، وكان أمام هذا الشاب طريقة واحدة هي بيع ضميره وتجميده، فهناك من يفعل ذلك وأكثر، لكنه رفض كل هذا لينحاز إلى ضميره متحملا قسوة العقاب.
قال بعض النقاد إن هذا الفيلم أقل جودة من الأفلام الأخرى للمخرج ستون، لكن هناك من يقول إننا نعيش المتعة، فالفيلم ينطلق من فكرة إنسانية وليست تصريحات ومعلومات وفضائح، ويحسب للمخرج شجاعته وميوله إلى الجانب الإنساني ببساطته ولم يبن فيلمه على صراعات معقدة ولا كوميديا ضاحكة ولا بطولات خارقة ولعل تصوير الدواخل الإنسانية وملامسة الروح مهمة معقدة لا تنفع فيها الخدع السينمائية.
حاول ستون في هذا الفيلم خلق ومضات لتستيقظ الحقيقة فهو يداعبها كعـــــادته في أفلامه ويفتح أعيننا على قضايا مهمــــة مثــــل التلاعـــب بالاقتصاد وأسواق المال وحرب فيتنام وأحداث 11سبتمبر/أيلول وغيرها ولا ينطلق في أفلامه من قياس وحسابات الربح أو الشهرة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى