أحمد المديني: لماذا نستكثر على بلدان الخليج تأسيس جوائز للأدب؟

فطين عبيد

< أوضح الروائي والكاتب المغربي أحمد المديني أن الخليج لا يؤسس جوائز يفوز بها غير أبنائه، معتبراً أن هذا كلام معيب. وقال المديني في حوار مع «الحياة» إن الخليج وبلداناً أخرى مدعوة إلى الإسهام في توفير ودعم إمكانات وسبل تجديد ثقافة الأمة العربية وأسباب نهضة جديدة، داعياً إلى الكف عن محاكمة النوايا وقطع دابر الأسئلة العقيمة، غير المنتجة، حول الجوائز. وأشار المديني الذي يرأس لجنة التحكيم في جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية التي أعلن عنها في الكويت، إلى أن هذا الضرب من السجال حول الجوائز يغذيه إعلام ثقافي بئيس.

> أولاً، نهنئكم مقدماً على نجاح الدورة الأولى من جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية التي تترأسون لجنة تحكيمها، ثم كيف سار التحكيم الذي انتهى باختيار القائمة الطويلة ثم القصيرة، هل كان في بالكم ما يحدث في الجوائز الأخرى من سجال واختلاف بين أعضاء لجنة التحكيم أنفسهم؟
– إنها لمبادرة تستحق التنويه والتقدير هذه التي التقت فيها إرادة الوسط الأدبي الكويتي، ممثلة في الأديب الكبير طالب الرفاعي، والجامعة الأميركية بالكويت، بالانتباه لفن القصة القصيرة الرفيع، وتخصيص جائزة له، لعديد أسباب، بقيت مركزة كما هو معلوم على الرواية، بحق تارة، وكثير من الخطل، تارات. هي مباردة تصدر عن وعي بأهمية هذا النوع الدقيق والصارم من جنس السرد التخييلي، لا يقبل عليه بجد ودأب، ويتقنه إلا الراسخون في فن السرد حقاً، ومن وجهة نظري، وكممارس للقصير والروائي منه، فإنني أعتبره محكاً لكل كاتب يريد تمرين قلمه على صعوبات السرد وعوالمه، واختبار قدراته حقاً، كم من روائي كبير خضع له، أبرزهم همنغوي، وجويس، ونجيب محفوظ، والقائمة طويلة. غير أن القصة القصيرة ليست كما يحسب بعضهم خطأ معبراً للرواية، بل هي فن محكوم بقواعده التي نعتبرها مع جمهرة الدارسين المتخصصين، قائمة بذاتها ومن الممتنع، الممتنع. نعم، إن «السوق» اشتركت بقدر في إجحاف هذه الكتابة، إنما أخطر منها السهولة المسفة التي يتهافت بها كثير على وضع روايات ملفقة، بمثابة قفة تحوي كل شيء ولا شيء، والأغلب اليوم خواطر واستيهامات مبعثرة، واستدعاء حكايات بلا حبكة تذكر، وتدبيج تقارير سياسية وخطب آيديولوجية، ليتماشى جله مع ذائقة مزعومة أو تقليعة تريده، بطريقة ما، تروِّجها جوائز باتت تسيل لعاب الدخلاء على الأدب، أكثر من أن تثير شهية الأدباء المغتنين بنصوصهم، حتى ولو تطلعوا دائماً إلى الاعتراف، هو حق. إن فن القصة القصيرة لا يحتمل أية خفة، إنه غربال تتساقط منه بسرعة النِّخالة، وما أكثرها، حذار إذاً من استسهال هذا الفن، وجائزته تريد حقاً أن تعيد إليه الاعتبار، لم لا، كبضاعة في سوق الأدب، وكفن معتبر أولاً.
> ما التحديات التي واجهتكم في التحكيم؟ وهل ترى أن هذه الجائزة يمكن لها أن تدفع بهذا الفن إلى الأمام وتشجع الكتاب الذين لا يكتبون القصة على اقتحام الكتابة فيها، مثلما حدث للرواية من الشعراء وكتاب آخرين لم يعرفوا كروائيين؟
– أظهر إطلاق هذه الجائزة، وخلافاً للشائع، أن القصة القصيرة وافرة، كتابة ونشراً. تلقينا 190 مجموعة قصصية، من أقطار العالم العربي قاطبة، متفاوتة الكمّ والقيمة، من مصر وحدها 84، ومن المغرب مثلاً 14، وجاء كتابها من أجيال مختلفة، الشباب أعماراً، والنشء الواعد أغلبهم، وهذه علامة خير وبشير أدبي للمستقبل. لا بد من الإقرار أن الغثّ كان أغلب من السمين، حال التسابق في الجوائز جلها، لا يتروّى المترشحون ويتأملوا أعمالهم قبل الإقدام على طرحها أمام لجان تحكيم يفترض أنها حصيفة، سديدة النظر، تستخدم في تقويمها ميزان الذهب، ولا تخشى في صدقية الأدب لومة لائم. أحسب أن لجنتنا من هذا العيار، مكونة من خمس قامات، نساء ورجالاً، ذات كفاءة أكاديمية ونقدية وإبداعية في ميدانها، مشهود لها بالاستحقاق، وهو شرط ينبغي لكل الجوائز في العالم العربي أن تحترمه وتقتدي به، هو أول مدخل يضفي على التباري قيمة، والتتويج شرعية، وحرصنا في الأطوار التي مررنا بها من جائزتنا الوليدة أن ننتبه بيقظة وحذر، وحرص منهجي، نقدي، معرفي، وأخلاقي، أيضاً، لا بد منه، كي لا نقع في أي محذور، ونعطي من البداية المثال لتجاوز هفوات، إن لم أقل آفات ما نسمع عنه ولا يكاد يقبله منطق، ليسمح لي في هذه السانحة أن أشكر زملائي على ما أظهروه من علو كعب.
> كيف سارت عملية التحكيم؟
– مررنا إلى الآن بثلاثة أشواط في فحص وانتخاب المجاميع التي ترشّح مؤلفوها للجائزة: الشوط الأول، هو الذي اخترنا فيه من الكمّ الكبير المذكور، 20 مجموعة فقط، وفق معايير صارمة، تقتضي الدراية بفن القص، والحذق في تمثيله، والإضافة الممكنة شكلاً وتصوراً في نهجه، وقبل هذا امتلاك ناصية سلامة اللغة وجمالية التعبير، وطبعاً ماهية القول معنىً ودلالةً ناهضاً على مرتكزات الذات والمجتمع والإنساني. في هذه المرحلة، تداولنا نحن أعضاء لجنة التحكيم بين القراءة والتشاور، والاختلاف، أيضاً، فيه رحمة، مجاميع من أجيال إبداعية وحساسيات وهموم وإرهافات فنية متباينة، ولا أخفيكم شعرنا بالاعتزاز أن هذه الجائزة وهي في خطوتها الأولى تشجع لاقتحام غمارها أقلام وازنة وذات نتاج معلوم ومعتبر، مقابل أخرى ظنت أنها تدخل مباراة لإنشاء مدرسي لجريدة حائطية، وبين هذين الحدين أسفنا لما وقفنا عليه بمرارة من تعثر كثير من الأقلام، حتى لأسماء مرموقة، في اللغة، نحواً وإملاء وصرفاً، دعك من ركاكة الأساليب، وقلة الخبرة بالحياة، وهزال العُدّة الفنية، لم ولا نفهم أن هؤلاء لا يعون أن الأدب لغة قبل كل شيء، ولا يليق بمن يجهل قواعدها، ولا هو يمتلك زمام التعبير فيها أن يقتحم حياضها، هكذا كان الأقدمون، وهذا حال آداب العالم، وأية مأساة أن تجد في أدبنا المدققين أنفسهم يخطئون!
في الشوط الثاني أعددنا لائحة العشرة، أجود ما يُصطفى من الـ20، وبتفاوت محدود جداً حقاً، فنحن في ميدان الأدب، لا العلوم الدقيقة، لا أخفيكم اعترتنا بعض الصعوبة في الحسم في هذه المرحلة بين نصوص مؤهلة أو أقرب، هنا حيث تتقاطع أذواق وثقافة أعضاء لجان التحكيم عادة أو تتضارب، فيكون التصويت هو الفيصل، كذلك كان. بينما أقبلنا في الشوط الثالث الذي أفضى إلى القائمة القصيرة من خمسة أسماء على اختيار تمّ بحماسة وتوافق بالإجماع، وهو ما يطمئننا إلى سلامة الاختيار، ويبرز الذائقة المشتركة للجنة منسجمة وناضجة، أتمنى أن يتواصل عملها بهذه الخطة إلى الشوط الأخير، المرتقب في مطلع الشهر القادم بالكويت، في الاجتماع الأخير للجنة التحكيم لاختيار الفائز من بين الخمسة لهذه الجائزة المباركة.
> ألم تتعرضون لضغوط من أي نوع؟
– لجنتنا عملت وتواصل باستقلالية تامة، من غير توجيه من أي جهة أو وصاية، أو أي أسلوب «كولسة» من أي نوع، كما قد يحلو لبعض التهريج تداوله في مثل هذه المناسبات، اللهم ما هو إداري وتنظيمي، من رئيس الجائزة، أولاً، بتقدير وحرص مميزين، ومن لجنة الأمناء أرسلت التهنئة والتشجيع لخطوات عملنا مشكورة، وهذا يُعدّ دليلاً إضافياً لصدقية وجدارة الجائزة حاضراً ومستقبلاً، أحسب أخيراً أن ليس مثل النصوص المؤهلة شاهداً ومصداقاً له.
> لماذا غالبية أعضاء القائمة القصيرة من الشباب، توقعنا أن تضم بعض الأسماء القصصية المخضرمة؟
– لقد وضعنا، نحن أعضاء لجنة التحكيم، نصب أعيننا منذ البداية، وسنواصل إلى النهاية، قيمة النص أولاً، النص أخيراً، واعتمدنا شباب النص لا قياس الأعمار، علما بأن أغلبنا نحن تجاوز الـ50، والأعمار بيد الله. مفهوم الخضرمة احتوته المجاميع المنتخبة، بمعنى أنها تمثلت تراثاً سابقاً عليها، وتظهر ناضجة في استخدام التقنيات القصصية الموروثة، ثم تتخطاها بتطويرها، بتجديدها، وحتى القطع معها على نحو تجريبي صادم و«متطرف» وهذا مسار ومصير الأدب، السرد التخييلي أجنبياً وعربياً، مسلسلٌ من الإبداع والحداثات. وهل من الضروري أن أضيف بأن أية جائزة تحتاج إلى الانتصار لما هو متقدم وخلاق في رصد الأوضاع الإنسانية، واستبطان الذوات، برسم صورة الإنسان في أحواله المتبدلة، وهواجسه، بكيفية معطاء، أي تبرز فيها موهبة وصنعة المبدعين، والقصة القصيرة أمُّ صنعة الأجناس الأدبية طراً. وليكن معلوماً بعد هذا وذلك، بأن لكل لجنة تحكيم شخصيتها، وفخرُ لجنتنا وهويتُها الثقافية، أحسَبها تليق شعاراً لجائزة الكويت، تناغمُ التأصيل والتجديد.
> يبدو الخليج دائماً صاحب المبادرة في هذه الجوائز الكبرى، كيف ترى ذلك؟ ما رأيك في من يقول إن الخليج يؤسسون الجوائز ليفوز بها غيرهم؟
– جميلٌ أن تحتضن بلدان الخليج مثل هذه التظاهرات، وأن تستخدم ريعها الوافر – زادها الله – من نعمه لرعاية الثقافة والأدب والفنون والعلوم، وكل ما ينفع الناس. وغير خاف أن الإحسان كان مورداً أداة فاعلة في تشييد كثير من المنجزات الحضارية والأعمال الخالدة اليوم، وما يزال، لخدمة الثقافة ودعم أهلها. هل تعلمون أن شركات السيارات الألمانية واليابانية هي التي تقدم السند المالي الضروري لترجمة آداب هذين البلدين إلى الفرنسية، مثلاً. أن مؤسسات يابانية هي التي تمول ترميم آثار عظيمة في باريس، ومثله كثير. وإذاً، لماذا نستكثر على بلدان الخليج هذه الرعاية، ولتزد، شريطة أن تغلب القيمة والجدارة، ولا تسقط في شرك أو جاذبية ما لا يُستحب لها أو يفسد مقاصدها، ألا فليعط القوس باريها، و«هل جزاء الإحسان إلا الإحسان». إن الخليج لا يؤسس جوائز يفوز بها غير أبنائه، وهو كلام معيب. إن الخليج وبلداناً أخرى كلما أسعفها مالها ووعيها بقيمة الثقافة واعتبار المثقفين والأدباء والعلماء، مدعوة كلها، إلى الإسهام في توفير ودعم إمكانات وسبل تجديد ثقافة الأمة العربية وأسباب نهضة جديدة ونمو وتقدم نطمح إليه في الميادين كافة.
> كيف ترى في شكل عام واقع الجوائز العربية، وإلى متى يرافقها السجال؟
– ينبغي أن نكف عن محاكمة النوايا ونقطع دابر الأسئلة العقيمة، غير المنتجة، حول الجوائز. هذا الضرب من السجال حولها يغذيه إعلام ثقافي بئيس يعتاش من أي «علف»، متخصص في النميمة والقدح، وكثيراً ما يخوض فيه الخاسرون، أيضاً، لا عذر لهم. وينبغي أن يتفاداه العقلاء، هم أحياناً من الخائبين، والجوائز هكذا ليست حكماً بلا استئناف على قيمة كاتب أو عمله، ولا يغترن من فاز بجائزة يحسب أنه بلغ مجداً، ونعلم سراً وعلناً تواضع وحتى وضاعة نصه، وليتفطن الجميع أننا جميعاً نتحرك في تراب وحقل القيم الرمزية، ولا يستكثرنَّ أحدٌ أيضاً على الكتاب حقهم في نيل الاعتراف، خصوصاً في مجتمعاتنا العربية التي ليس فيها للمثقف الأكاديمي الأديب أي وضع اعتباري يذكر. إن تكريم الكاتب حال حضارية، ودليل رقي أمة، فمرحى إذاً بجوائز الرقي بمراعاة الإنسان وقيمه الرفيعة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى