عبدالله شمو يؤكد أن زرياب نوبي والسمسمية نوبية

محمد الحمامصي

يرى الملحن والشاعر د. عبدالله إبراهيم صالح الشهير بعبدالله شمو أستاذ الموسيقى بكلية الموسيقى والدراما في جامعة السودان أن منطقة النوبة بشقيها الشمالي والجنوبي ظلت معبرا استراتيجيا لثقافات العمق الأفريقي في الشمال الإفريقي والشرق القديم، وكانت على صلة وثيقة بالممارسات الغنائية الإثنية في مصر، ثقافيا واجتماعيا وسيياسيا عبر القرون بين البلدين، وتبدو ملامحها في الزي والممارسات الغنائية والرقص وشكل صناعة الحياة والارتباط بالبيئة ومكوناتها، وأن مؤرخي الموسيقى في حوض النيل رجحوا أن شكلا من أشكال المنظومة الخماسية كانت متداولة في الحضارة الفرعونية إلى جانب المنظومة السباعية في عهود متفاوتة.

وليس من السهل حصر خارطة المناطق التي تتعامل مع المنظومة الخماسية على امتداد عصور سحيقة من التلاقحات الإثنية والثقافية المعقدة بين شعوب الوادي والعالم القديم، بكل ما تتخلل حقبه التاريخية من غموض وهلامية من جراء الرصد غير الدقيق للتاريخ الثقافي للمنطقة برمتها، ومن غير السهل أن يتوصل علماء الموسيقى إلى قرائن أو معايير معينة تسند ازدهار منظومة موسيقية ما في مكان من عدم من عدم وجودها في مكان آخر.

ويضيف في كتابه الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة “موسيقى مصر والسودان.. شواهد حضارية وثقافية” أن النظم السلّمية الموسيقية الخماسية هي المنظومة أو المقامات كما يحلو لبعضنا تسميتها والسلالم كما يحلو لي خاصة وأن نظريات الأميركي فنسنت بورسشتي في مؤلفه “هارمونية القرن العشرين” قد أفاض وأوجد تصنيفات رائعة للسلالم الخماسية الدياتونية.

ويعرف أن أكثر من ثلثي سكان العالم يتغنون بالخماسية، مثل الصين وشبه الجزيرة الهندية والباكستان والبنغلاديش وبورما والفلبين وماليزيا، وبعض دول شرق أوروبا ومعظم أفريقيا، وأميركا اللاتينية والشمالية. فكيف للقلة أن تتسيد الكثرة؟ علما بأن التعريفات حول مفهوم السلمية تقول “إن أي نظام نغمي جاء في خمسة أصوات أو نغمات يعتبر سلما طبيعيا، وإن قل عن الخمسة، فيعد سلما بدائيا. ونجد النظم السلمية السائدة في ألحان السمسمية والطنبور في وادي النيل الأعلى والأسفل، هي الخماسية، وإن اختلفت في طرق ترتيبها وتركيبها، سواء بوجود أنصاف البعد النغمي أو بدونه.

ويمتد تأثير هذه السمات حول السلالم الخماسية لدول إفريقية أخرى كالصومال وإريتريا وإثيوبيا، إلي جانب منظومات أخرى مثل المنظومة السباعية بخصائصها العربية الشرقية في مصر، أو بخصائصها السودانية كما في كردفان بغرب السودان. ولا يصدق القول بعدم وجود سلالم غير الخماسية في السودان، إذ توجد السلالم السداسية والسباعية بخصائصها الخاصة جدا”.

ويسعى شمو في الكتاب إلى تأصيل الروابط الموسيقية بين مصر والسودان حيث يغوص في عوالم الموسيقية السودانية التي تقترب كثيرا من الموسيقى النوبية مرورا بالموسيقى التراثية المصرية، ويبدأ في تمهيده بإشارات حول لغة النوبة وحياة أبنائها الاجتماعية والثقافية وموروثاتها وبين ذلك يشير إلى نوبية المطرب المشهور في التراث العربي “زرياب” يحكي: “يقال عن زرياب ذلك المطرب المشهور، وضارب طنبوره في بلاط الخليفة هارون الرشيد إنه من النوبة. يأتي ذلك في إطار ما دونه المؤرخون العرب أنفسهم في هذا الشأن إذ نقلوا نص ذاك الحوار الذي دار بينهما أثناء التعارف: إذ سأله الخليفة: ما اسمك؟ فرد: اسمي زرياب. من أي البلاد؟ فقال: أنا من النوبة. وعاود الرشيد يسأل: ماذا تعني كلمة زرياب أظنها غير عربية؟ أجاب: إنها فعلا كلمة نوبية وتعني: البلبل الصداح. وينتشر اسم زرياب في بلاد السودان وأعماق إفريقيا، لتوسع مملكة النوبة الكوشية فيها.

ثم يلفت إلى أن موسيقى مصر التراثية كغيرها من موروثات الشعوب لها ما يميزها ويكسبها أصالتها وجوهرها. فهي فن قديم جسدته الآلات الموسيقية، التي لشعوب مصر الفرعونية القديمة اعتقادات تفاوتت وتبدلت من بعد علم ودين، إلى أنها هبة ربانية، وهذا ما توصل إليه الباحثون فيها كالدكتور محمود أحمد الحفني (1898-1975) الذي ذكر في كتابه “موسيقى قدماء المصريين” أن الموسيقى كانت من بين العلوم المقدسة في مصر القديمة التي شهدت “مدنية موسيقية” تمثلت في وجود “آلات موسيقية جاوزت دور النشوء وغدت تامة كاملة في المصفقات والطبول وآلات النفخ والآلات الوترية”.

ومن الآلات التي اشتهرت في مصر الفرعونية الناي والهارب. توارث منهما مع المصفقات والطبول ست وعشرون آلة موسيقية شعبية منذ آلاف السنين . وتنقسم إلي ثلاثة أنواع أولها “آلات النقر” وهي ذات إيقاع ولها رق جلدي في أحد وجهيها أو كليهما مثل الدف والدربكة والرق والنقرزان والكاسات والصاجات الباعة والطبل الكبير – طبل السيد والطبل السوداني – والطبل السيوي.

والنوع الثاني هو المزمار وهو آلة نفخ لها تنويعات بعضها ذو ريشة مفردة أو مزدوجة أو بدون ريشة ومنها الأرغول والسلامية والمقرونة والشبابة والشلبية “مزمار قنا” والستاوية “مزمار مزدوج”.

أما النوع الثالث فهو آلات النبر أو الجر بالقوس علي الأوتار ومنها السمسمية والطنبورة والربابة من القوالب الغنائية التي انتشرت عن موسيقي مصر التراثية “السير، الموال، المديح، الهزيج، أغاني العمال، الابتهالات، أغاني الأعراس”. وانشقت منها قوالب أخرى كالطقطوقة والقصيدة والدور والموشح والمسرح الغنائي – الأوبريت) وغيرها.

يؤكد شمو أن قدماء المصريين أبدعوا في صناعة عدد من الآلات الموسيقية المختلفة، وهذا ما أثبتته النقوش والرموز والحفريات التي درست من قبل علماء الآثار الذين أكدوا قدمها وريادتها مثل الآلات الوترية كالقيثارة والسمسمية والعود والبزق والكنارة والهارب وأنواع النفخية كالناي والأرغول المزدوج وأخرى إيقاعية وأنهم استخدموا الرقص الحركي التعبيري كنوع من ممارسة الطقوس التعبدية التي تقربهم للآلهة وتحفظهم وحفلت بها القصور والمعابد والبيوت.

ويؤكد على أن “الطنبور” آلة موسيقية وترية قديمة ذات أصول نوبية وتعني في اللغة النوبية كلمة مركبة من جزءين ـ تو وتعني البطن، وبور وتعني الأجوف وبجمعهما يكون المعنى ذو “البطن الأجوف” وتعد الآن الأقدم على الإطلاق، ويقال إنها بداية تطور آلات الهارب ـ الكنارة والغيثارة ـ ويسميها النوبة في مصر وبمنطقة القناة “السمسمية” نظرا لجلبهم إياها في معيتهم أثناء حفر قناة السويس، وأن الموسيقى الفرعونية القديمة استخدمت السلالم الخماسية في التراتيل والقداس في الكنائس المصرية والتي هي مصدر الألحان والموسيقى.

وفي عصر الدولة الوسطى تم استخدام السلالم السباعية والإيقاع الفرعوني. وتستخدم لإحياء المناسبات في منطقة قناة السويس والإسماعيلية وبورسعيد وتطورت ووصل عدد أوتارها لثمانية ليؤدى عليها بمقامية سباعية كاملة في مصر”.

وإثباتا لرأيه حول نوبية السمسمية يقول “وبإطلاعنا علي ما ورد حول انتقال آلة السمسمية من مناطق النوبة إلي السويس، وجدنا أقاويل عدة ومن أبناء مصر أنفسهم حول ما أثير عن أسبقية وانتقال الآلة لمنطقة السويس. هناك فريق يصر على أنها سابقة لكل ما عداها تأريخيا ومكانيا وموروثا.

ويروى عن أسامة كمال أبوزيد قوله “دائماً ما يربط المصريون بين فن السمسمية ومنطقة القناة (بورسعيد ـ الإسماعيلية ـ السويس) كظلين لجسد واحد مهملين بقاعاً بحرية أخرى عرفت فنون الطنبورة والسمسمية مثلها مثل مدن القناة، ومنها مدينة رأس غارب”.

ويستطرد “في رحلتي إلى رأس غارب صحبني اثنان من أساطين (السمسمية) ولازمتني سيرتهما طوال ساعات الرحلة التسع، الأول: الفنان الشعبي محمد عثمان النجي الذي ارتحل من النوبة إلى منطقة القناة أثناء حفر قناة السويس (1859 ـ 1869) حاملاً على يديه الطنبورة (الآلة الأم للسمسمية) والمكونة من ثمانية أوتار والمشابهة لآلة الهارب الفرعونية القديمة”.

ووضع البذرة الأولى لفن السمسمية على طول مدن القناة الثلاث وخلدته أدوار السمسمية بدور: الحمد الله أنه جي “محمد عثمان النجي” وطّر أعد الطنبورة لي.. والثاني: عبدالله كبربر الساحر النوبي الآخر الذي عاش الحياة وكأنها رحلة لا تنتهي في ثلاثينيات القرن الماضي وارتحل من النوبة إلى السويس إلى الإسماعيلية إلي بورسعيد وتحت إبطيه “السمسمية” بعد أن صغّر حجمها وقلل من عدد أوتارها إلى خمسة أوتار لترتحل معه من مدينة إلى مدينة ومن بر إلى بحر إلى بر.

والاثنان “النجي وكبربر” شاهدان على انتقال فن السمسمية كالهواء من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، وذلك ما تأكدت منه عند لقائي بالفنان الشعبي: عمرو راوي أحد أهم الفنانين برأس غارب والذي يجمع بين الولع بالفن والشغف بالتنقيب عن أصوله والتأريخ له.

وذهب بنا راوي بعيداً في التاريخ مؤكداً أن فن الطنبور ضارب القدم، وترتبط هذه الآلة عند كل مؤرخي الفنون الشعبية بالحبشة إحدى أهم البقاع السحرية التي خرجت منها كل الفنون المرتبطة بالبحر.

ويقول حول “غناء الطار” يشيع هذا النوع في مناطق تواجد النوبيين في مصر والسودان، ما بين وادي حلفا وحتى شمال أسوان بقرى التهجير ما بعد بناء السد العالي. ويعتمد على آلات الطار بشكل كلي في المساندة الإيقاعية، ويؤدي فيه الكورس المصاحب أدوار الاستعاضة عن الآلة الموسيقية في اللزم والفواصل الموسيقية التي تسهم في إراحة المغني وإعطائه فرصة الاستعداد والتهيؤ للمقاطع التالية.

وفي نمط غناء الطار لا تتم الاستعانة بأي آلة موسيقية لحنية. ويعتبر الرقص والتصفيق المصاحب من الكورس المشارك من العناصر المهمة جدا لإيضاح الصورة باكتمال بدرها. وتزدهي هذه الصورة بمشاركة الحضور جميعا وباختلاف سني أعمارهم في الاحتفال، ومن الذكور والإناث شيبا وشبابا وأطفالا دون استثناء. ويعتبر نوع الغناء الحواري بين جنسي الذكور والإناث من أهم مميزات الغناء في نمط غناء الطار عند النوبيين، وإن تعددت نصوص الأغنيات بدوالها الرامزة مع الاحتفاظ الظاهر والملموس بلغة الأصل النوبية، وبعض مفردات من العربية التي ربما لم توجد لها كلمات في اللغة النوبية.

ولأشعار النوبة أوزانها التي اختصوا بها، وتعد نوعا متفردا. ويلحظ عدم اندثار اللغة النوبية، وتجددها بدخول مفردات جديدة ترتبط بمستجدات العصر من تكنولوجيا وأدوات حديثة لم تؤثر فيها. وأن اللغة العربية التي سبقت كل هذه التقنيات والمحدثات العلمية والحياتية، هي الأخرى لم تطغ علي اللغة النوبية، وتعد اللغة الرسمية بين شعوب المنطقة، لأنها لغة التعلم والقرآن الذي تنتشر خلاويه وكتاتيبه هنا وهناك.

ومن أبرز الذين تغنوا في العربية والنوبية معا وأصابوا شهرة واسعة في مناطق النوبة وبخاصة النوبة السودانية الفنان محمد وردي، وقد سبقه في نظم الأشعار العربية الدارجة خليل فرح بدري، المجدد والمطور في فنون السودان الحديثة وهو رائد الغناء الوطني الرمزي في السودان.

ويشير شمو إلى طنبورة الزار المصري ظهرت لأول مرة في عهد الدولة الوسطي المصرية، وهي من أقدم الآلات الوترية القديمة والتي عرفت ما قبل عصر التاريخ وسميت “كنر- وكنارة”، واحتفظت بذات الخصائص التصنيعية والشكل في مناطق النوبة بأسوان. وقد ارتبطت بشكل مباشر بالطقوس والشعائر في الاستشفاء من الأمراض وطرد الأرواح الشريرة وتهدئة النفوس.

ومثال ذلك ما يؤدي من قبل السكان في مدينة البصرة. وتشارك الطنبورة فيما يعرف بـ “الزار السوداني” مصحوبة بنقارتين صنعتا من البراميل وجلدت من الجهتين لتصبح إيقاعية بأصوات جاهرة ومميزة، بجانب الشخاشيخ (مراكش) ومنجور.

وتختلف آلة الطنبورة النوبية التي تستخدم في الزار المصري عما سواها بكبر حجمها وزخرفتها وتحليتها المقصودة. ومن أشهر عازفيها في الزار: إبراهيم بشير، محمد عبدالله، إبراهيم خلف، مسعد شكمة، محمد عبدالله كبة (الصفتي)، محمد الدمرداش، إبراهيم جمعة، عوض بلبل، السادات، والعربي شكمة. ومن مغني الزار “أم السيد ليلة، محمد صديق، العربي شكمة”. ومن عمال الزار “أم محمد زوبة، أم سامي، عوض أبو حسين وفاروق البلوشي”، محمد شبانة”.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى