ميثولوجيا البحث عن إرمافروديتوس: الإزدواجية الجنسية للنَّفْس البشرية

رانيا حسن

تقول الأسطورة اليونانية إن إرمافروديتوس كان ابناً لهرمس رسول الآلِهَة، ولإفروديت آلهة الحب والجمال، وتحكي الأسطورة قصة هذا اليافع الذي اقترب ذات يوم من ينبوع يَخصُّ إله الماء سلماكيس في بلدة كاري الواقعة في آسيا الصغرى؛ كان إرمافروديتوس يريد تبريد جسده، فغطس في الينبوع الذي وجد مياهه صافيةٌ عذبة وممتعة.
أخذ إرمافروديتوس يتردد على الينبوع كل يوم ليستحمَّ في مياهه العذبة، وعندما رأتْهُ آلهة الماء، فُتِنَت به، وأحبَّت هذا الزائر الذي سَحَرَها برشاقة جسده وجماله؛ ومن أجله توسَّلَت إلى الآلِهَة لكي تمنحها نعمة الاتحاد به فاستجابت الآلِهَة، وفي يوم بينما كان إرمافروديتوس خارجاً من الماء، وجد نفسه وقد تحول إلى أحاديِّ الجنس. وكانت أحاديته هذه حصيلة اتحاد الإله الشاب مع آلهة الماء في شخص واحد.
تقول بلافاتسكي في كتابها «العقيدة السِّرية»، وهي مؤسسة الثيوزوفية، إن آلِهَة اليونان القديم كانوا أحاديّي الجنس، وفي نشأتهم كان الآلِهَة الأصليون يتمثلون بأشكال يتحد فيها الجنسان، على سبيل المثال زيوس كان يُدعى بـ«العذراء الملتحية». وكان أبولو مزدوج الجنس، أما في الأناشيد الأورفية التي كانت تُنشَد أثناء أعياد الأسرار، تُقرأ العبارة التالية: «زيوس ذكر، وزيوس عذراء خالدة»، وفينوس ملتحية في بعض رسومها.
اكتشفت مخطوطات العام 1945 في موقع نجع حمادي في مصر، وهي تضم أقدم كتابات غنوصية تعود زمنياً إلى ما بين نهاية القرن الثالث الميلادي إلى بداية القرن الرابع الميلادي حسب شبكة ويكيبيديا، وقد رفض الفاتيكان بشدة تلك المخطوطات واعتبرها هرطقة، أشارت إحدى تلك المخطوطات للعلاقة الجنسية بين يسوع المسيح ومريم المجدلية التي بدأت بعبارة أتخيلك كرجل يا مريم.
يعود الخروف لمكانه وأعود لمكاني ولا شيء بيننا سوى حسرة مشتركة عن هذا المركب التائه الذي يقوده بحار أعمى.
محمود درويش في آخر قصائده «لاعب النرد» يقول:
أُدَرِّبُ قلبي على الحبِّ،
ليتسعَ الوردُ والشوك
وأنا من أنا الآن إلا إذا التقت الاثنتان
أنا وأنا الأنثوية ..
بالنظر في قول درويش «أنا وأنا الأنثوية» فكرة الثنائية الجنسية للإنسان ومبدأ التعلل والانتقال، وبحسب عالم النفس النرويجي كارل يونغ بعد اكتشافه للاشعور الجمعي أن ليس هناك رجل هو مجرد رجل، وأن ليس هناك امرأة هي مجرد امرأة فقط، فكلّ رجل هو رجل وامرأة في الوقت نفسه، وكلّ امرأة هي امرأة ورجل في الوقت نفسه، وهذه هي الحقيقة الروحية الكامنة في اللاشعور الجمعي، التي لا ندركها إلا بالكشف عنها عن طريق استكشافنا للاشعور وفقاً للمبادئ التي وضعها يونغ ومدرسته.
فالمرأة في الرجل هي «الأنيما» والرجل في المرأة هو «الأنيموس»، إلا أن البُعد الأنثوي يظلّ في معظم الأحيان خفيّاً عند الرجل، وبالمثل يظل البُعد الذكوريُّ خفيّاً عند المرأة. فتصبح الأنيما التي تسكن الرجل والأنيموس التي تسكن المرأة وإشباعهما هما ما يحققان للإنسان التوازن في نفسه وفي واقعه، وعليه فإن الصراع بحسب يونغ بين الرجل والمرأة هو صراع عقيم لا يولِّد إلا المزيد من التردي والنكوص في المجتمعات .
وجاء العلم الحديث ليؤكد هذه الثنائية الجنسية في النفس البشرية، تقول نوال السعداوي في كتابها «الأنثى هي الأصل» : «المعروف بيولوجيا وفيزيولوجيا أنه ليس هناك من هو ذكر أو أنثي 100٪ حيث تتداخل الأعضاء والهرمونات لحد كبير، ويحتفظ الرجل ببقايا أعضاء أنثوية منذ كان جنينا وتحتفظ المرأة ببقايا أعضاء ذكرية منذ كانت جنيناً، ويجري في الجنسين في مختلف مراحل العمر هرمونات مؤنثة ومذكرة».
وتؤكد معظم العلوم الحديثة على الازدواجية الجنسية للنفس البشرية، فإن تجاهل هذه الحقيقة بتقسيم النفس إلى أنوثة خالصة وذكورة خالصة يعود إلى العوامل الاجتماعية والثقافية والتربوية التي تلعب دوراً مهماً في تحديد أنوثة المرأة أو ذكورة الرجل، ففي حين يُعاب على الرجل حساسيته ورِقة مشاعره ويُعاب على المرأة حزْمُها وقوة إرادتها، معتبراً الأول ناقص الرجولة والثانية ناقصة الأنوثة في المجتمعات الشرقية تحديداً، نرى في بعض المجتمعات الأخرى نموذجاً مختلفاً، فالثقافة تشكل جانباً كبيراً من هذه الذكورة أو تلك الأنوثة، ففي دراسة لعالمة الأنثربولوجيا الأمريكية مارغريت ميد عن إحدى القبائل الغينية تدعي «الأرابيش»؛ وجدت العالمة الأمريكية أن العلاقة بين الرجل والمرأة بالقبيلة تضبطها المساواة الكاملة، إلى درجة أنه ليس هناك تمييز بين ذكورة وأنوثة، إذ كان السائد في القبيلة أن الرجال يشعرون بآلام الوضع كما النساء، وفي مرحلة الحمل يشيرون للزوج ـ كما الزوجة ـ بأنه بمرحلة وضع، وما أن تنجب الأم طفلها حتى يشاركها الأب في أعباء رعاية الطفل، كما أن رجال القبيلة كانوا يقضون ساعاتٍ طوالاً في تصفيف شعورهم، ويلبسون الأزياء الخاصة في المناسبات ويرقصون، ويمتازون بشغفهم بالفن فكانوا الأكثر مهارة في الرسم بالألوان. انتقلت «ميد» بعدها إلى معايشة قبيلة أخرى تدعى «تشامبولي» فوجدت أن المرأة في المجتمع «التشامبولي» هي الحاكمة التي تعول الرجل في الصيد وجمعها للطعام، بينما الرجل يتدرب على نفخ الناي والرقص، ويقوم بالتسوق من مصروف أعطته له المرأة من عملها في نسج وبيع شباك لصيد البعوض، أما في النشاط الجنسي فالمرأة هي من تأخذ زمام المبادرة بينما يترقب الرجل مبادرتها هذه على استحياء».
يقول عبد اللطيف اللُّعبي في كتابه «حرقة الأسئلة»: بأن الرجال في حاجة ربما إلى حركة تحررية خاصة بهم على غرار النساء… تجعلهم يكتشفون امتداد المرأة في ذواتهم وامتدادهم في ذات المرأة. حينئذ لن يصبح للرقة والقوة، للحدس والعقل، للحيوي والفكري أي جنس قاصر، ستكون هذه الصفات على أبعد تقدير متجذرة أكثر لدى هذا الجنس أو ذاك حسب تاريخه الفردي أو الوراثي، وسيتمكن الرجل أخيراً من التخلص من درع المحارب كي يكتشف المميزات التي يملكها خاصة أو يقتسمها مع النساء والتي كبَتَها لحد الآن في أعمق أعماقه لأنها كانت متناقضة مع صورة الرجولة المبتذلة. حينئذٍ يكف اعتبار جسد الرجل كأداة عنف وامتلاك مرعبة ليكشف عن هشاشته المؤثرة، وقدرته على العطاء والإستسلام للآخر، ولِمَ لا وجمالُهُ يمكن للفن أن يحتفي به بدوره بدل تخصيص الإحتفاء بجسد المرأة كما فعل لحد الآن».
على النساء أن يتحررن من الاستغلال المزدوج وهذا لن يأتي طبعاً إلا إذا تحلَّيْن بصفات «ذكورية» تتمثل في روح المقاومة وقوة الإرادة وعلى الرجال أن يتحرروا من القيود التي تبعدهم عن ذاتهم الحقيقية ويكتشفوا جانب الضعف فيهم وبالتالي إنسانيتهم الكاملة ليكون كل منهما كاملا ًنفسياً معبراً عن نفسه البشرية الحقيقية بدواخلها المتشعبة ومعانقًا للحرية المطلقة وهذا لن يحدث ما لم يسعَ كلُّ واحد منا للوصول الى الإرمافروديتس الخاص به ربما حينها فقط قد يصبح العالم مكاناً رحباً يسع الجميع.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى