كتابة القصة ليست تمرينا على كتابة الرواية

على خلاف أبناء جيله، لم يُصدر القاص يحيى بن سلام المنذري سوى خمسة كتب، وبمسافة زمنية كبيرة نسبيا بين كل كتاب وآخر، وهو ما يردّه صاحب “نافذتان لذلك البحر” إلى حرصه وتأنيه قبل خوض مغامرة النشر، ومحاولته عدم تكرار نفسه، إلى جانب انشغاله بشؤون الأسرة والعمل والحياة الاجتماعية.

لكن هذا التباعد بين كتاب وآخر لا يعني الانقطاع عن الكتابة، و”حتى إن وُجدت فترات من دون كتابة فإنها لا تخلو من القراءة”، كما يؤكد المنذري.
تداخل الفنون

تبدو قصص المنذري أقرب إلى اللوحات الفنية من حيث التشكيل والصورة، لا سيما في مجموعتيه “نافذتان لذلك البحر” و”رماد اللوحة”، وهو يتحدث عن هذه السمة قائلا “كتابي الأول صدر في عام 1993، تلك المغامرة في النشر خضتُها وأنا لا أزال طالبا في المرحلة الجامعية الأولى، وتبنيت مع عدد من الأصدقاء الأسلوب الحداثي في كتابة القصة، وكان هناك هوس باللغة الشعرية، وتأثر بشعر الحداثة وبعض كتاب القصة من المغرب والجزائر والبحرين، لكنني لم أمكّن اللغة الشعرية من السيطرة كليا على الأحداث”.

ويضيف المنذري “كنت مجربا باستمرار، فهناك قصص نشرتُها في الصحف والمجلات في تسعينات القرن الماضي، لم أدرجها في مجموعتي الأولى لأنني لم أعد مقتنعا بفنّيتها، كما أنني حرصت على الاحتفاظ بالأحداث والشخوص ضمن اللغة الشعرية، لكنني كنت حذرا من الوقوع في فخّ التهويمات واللغة التي تخفي تحت شعريتها كل شيء”.

ويدلّل المنذري على ذلك بانتشار قصته “حبات البرتقال المنتقاة بدقة”، وتحويلها إلى سيناريوهات للسينما والإذاعة، وترجمتها إلى اللغة الإنكليزية ضمن مجموعة منتقاة من القصص العربية في كتاب “برتقالات في الشمس” حمل العنوان المترجم لقصته تلك. ويرى الكاتب أن التشكيل كان حاضرا في قصصه بسبب هوسه باللوحات والألوان، كما كانت التقنية السينمائية حاضرة فيها بعد أن انتبه إلى فكرة “تداخل الفنون”.

وفي هذا السياق، يستذكر القاص الإيقاع العام للكتابة لدى أبناء جيله قائلا “حرصنا على طرح أفكار مغايرة وغير مألوفة، كنا مجموعة قليلة من الكتاب الحداثيين، وكانت معظم الإصدارات في القصة والرواية تتسم بالمباشرة واجترار الأفكار السائدة، وسرد الحكاية الباهتة الخالية من دسم الخيال والروح، كمن يصرّ في كل مرة على تصوير مشاهد طبيعية يستطيع المئات من الأشخاص تصويرها، وهذا ما رفضنا تقديمه”. وقد ترسّخ هذا التوجّه في مجموعته الثانية “رماد اللوحة” (1999) التي حاول فيها تطوير تجربته.

وردا على من يقول إن كتابة القصة ليست سوى تمرين لخوض الرواية، أو إن السارد يبدأ قاصا وينتهي روائيا بعد أن ينضج، يؤكد المنذري “هذا القول بعيد عن الصحة، فالرواية فن، والقصة فن آخر، يلتقيان أحيانا ويفترقان أحيانا أخرى. هناك شعراء كتبوا الرواية، فهل يسعنا القول إن كتابة الشعر تعد تمرينا لكتابة الرواية؟ كما أن هناك كتّابا بدأوا بكتابة الرواية ثم توجّهوا للقصة القصيرة، فهل يمكننا القول إنهم كانوا يتمرنون لكتابة القصة أو إنهم لم يعودوا ناضجين؟”.

القصة القصيرة بحسب ما يرى المنذري، لها تفردها وأسلوبها، والرواية كذلك. والرهان دائما على القيمة والجودة الفنية للعمل الإبداعي، فبإمكانك أن تجد خاطرة من خمسة أسطر تتفوق في البلاغة والمعنى على رواية من ألف صفحة أو قصة قصيرة من صفحتين، وربما تجد قصة قصيرة تشتمل على الإبداع ما يجعلها تتفوق على رواية، أو تجد رواية ممتعة تتقدم في فنياتها على مجموعات شعرية أو نصوص مسرحية.

ولكن، هل يفكر المنذري في خوض غمار الرواية في يومٍ ما؟ يجيب القاص “كتابة الرواية بحاجة إلى وقت طويل بسبب طبيعة البناء الفني وتشابك الأحداث فيها. لكن إن واتتني فكرة رواية وكان لدي ما يكفي من وقت وصفاء ذهنٍ لكتابتها فلن أتردد في ذلك”، مشيرا إلى أن الإصدارات الروائية “تهطل كالمطر”، ومعظم الروايات التي قرأها تكشف عن “استسهالٍ في الكتابة وغياب النضج الفني”.

وبحسب المنذري، هناك توجّه محموم واندفاع غير طبيعي لكتابة الرواية، رغم تقدم التكنولوجيا إلى حدّ إدخال الناس في فوهات الكسل وجعلهم يستمرئون الأشياء السريعة، فبدلاً من الإقبال على نصّ من صفحتين، مثلا، يتجه القارئ إلى نص من ثلاث مئة صفحة. ولكنه يشكّ في استمرار هذا الوضع.
التكنولوجيا والأدب

تتسم عناوين مجموعات المنذري القصصية، بكونها مستفزة، مفتوحة على التأويل، تقوم على المفارقة وعنصر المفاجأة، وهو يرى أن العنوان يمثل العتبة الأولى للكتاب، لذلك من المهم أن يكون جذابا، غامضا، صانعا للأسئلة والتأمل، ومن هنا يتأتى حرصه على اختيار عناوين قصصه لأنه يختار من بينها عناوين كتبه.
وينظر القاص إلى الكتابة بوصفها حياة “كالقراءة تماماً، كالماء العذب الذي يحيي روح الكائنات الحية”، ويضيف “عبارة واحدة محمّلة بالحكمة، قد تصيب العقل في معرفة، وتوقظه من غفلة إحباط، أو تنقذه من قبضة يأس، أو تنتشله من مستنقع وحْل طافح بالأفكار الظلامية، عبارة واحدة تكفي لنصرة قارئ. وبهذا، فإن الكتابة المتمكنة والمحْكمة والفيّاضة بالإبداع قادرة وبقوة على فعل شيء مهم للبشرية”.

تحضر الأجواء الغرائبية والفانتازية في قصص يحيى المنذري، وبالخصوص في مجموعته الأخيرة “حليب التفاح” (2016)، وهو يربط ذلك بالواقع، فـ”الواقع غامض، وعقل الإنسان يزداد قوةً يوما تلو آخر طالما أنه متسلّح بالتفكير، فكل هذه العلوم المتقدمة الآن والتي جعلت منا كائنات خيالية وساحرة كانت في الأصل مجرد خيال نبتَ من عقل الإنسان في يوم صعبٍ مليء بالتحديات والصعوبات، وجعل من ذلك اليوم الصعب سهلاً”. ويضيف “أصبح الإنسان مع تقدم العلوم والتكنولوجيا الساحرة، يمشي بين جبلين، جبل ساخن أجرد يمثل سلبيات ومخاطر هذه التكنولوجيا، وجبل آخر بارد مخضَرّ يمثل خيراتها وإيجابياتها”.

ووفقاً للمنذري، للخيال جماليات لا حدود لها، تنتشل الإنسان من واقع يبدو مريرا، والكتابات الأدبية والفنون من دون الخيال تغدو كالسراب، والفانتازيا والأساطير معجونة به.

ويقرّ المنذري بتأثير مواقع التواصل الاجتماعي على القصة وفنياتها، فهذه المواقع “من نتاج التكنولوجيا المتقدمة، وهي مفيدة من حيث عدّها وسيلة لانتشار القصة، ولكنها أيضا وسيلة للسرقات الأدبية”، فلا يستبعد أيّ كاتب أن يجد أحد نصوصه منشوراً في مجلة أو موقع إلكتروني أو قد يشارك به أحدهم في مسابقة أدبية مذيلا باسمه. أما تأثير هذه المواقع على فن القصة، فهذا يعتمد على موهبة الكاتب وثقافته، فهناك من يتأثر بالقصص التي تُنشر يومياً باستسهال، وهناك من لا تهزّه ريح.

وبشأن القصة العُمانية وموقعها على الساحة العربية، يرى المنذري أن القصة في السلطنة ذات خصوصية تتعلق بالبيئة والسياق الاجتماعي الثقافي. وهو لا يتردد في القول إن المشروع القصصي والروائي في عُمان سيكون مزدهرا أكثر مما هو في الشعر وبقية الفنون، وإن كان هذا “يحتاج إلى القوة والصبر والقراءة، فلا يمكن لموهبةٍ أن تتطور وتبدع من دون تعب وتضحيات”.

أما القواسم المشتركة بين القصة في عُمان ونظيرتها في منطقة الخليج،

أو في الأفق العربي الأوسع، فيلخّصها المنذري في تشابه العادات والتقاليد، وتكرار ثيمات بعينها، مثل الألم والحزن والمعاناة والموت.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى