طالب الرفاعي

شيرين أبو النجا

في سياق اهتمام مصر بإعادة تسوية العلاقات مع القارة الإفريقية، جاء المؤتمر الدولي الثالث عشر (عقده قسم اللغة الإنكليزية وآدابها في جامعة القاهرة) بعنوان «أصوات من إفريقيا وعنها»، استجابةً لفكرة آنية ومُلحة. يعكس المؤتمر كمّ الدراسات الإفريقية التي ينخرط فيها أبناء أقسام اللغات في مصر، من ناحية النظرية التي تأسست لدراسة فترات ما بعد الاستقلال، ودراسة الآداب الإفريقية سواء التي كُتبت بالإنكليزية أو المترجمة. قامت تلك الدراسات على فرضية انتهاء الاستعمار، ما يسمح للثقافة المحلية بالازدهار مفسحة مكاناً لتفاعل الذات في شكل أمين وصادق مع نفسها ومع الآخر بلا أية حواجز أو أوهام نفسية. إلا أن هذه الفرضية تُعبّر عن الخطاب النظري الذي صاغه كثيرون من المفكرين الغربيين وقلة من الأفارقة المقيمة في الغرب.
من هنا جاءت أهمية المحاضرة الرئيسة التي ألقاها المفكر المصري حلمي شعراوي، وهو الخبير بالشأن الإفريقي منذ أن كان طالباً في كلية الآداب في جامعة القاهرة، منتصف خمسينات القرن العشرين، إلى أن أصبح مسؤول حركات التحرير الإفريقية (من 1960 حتى منتصف السبعينات). وبعد خروجه من السجن (لاعتراضه على مشاركة إسرائيل في معرض كتاب القاهرة عام 1981) عمل أستاذاً في جامعة جوبا، ثم خبيراً للعلاقات العربية الإفريقية في منظمة أليكسو في تونس، أما الأهم فهو أنه قام بتأسيس مركز البحوث العربية والإفريقية في القاهرة.
جاب شعراوي إفريقيا خبيراً أو مشاركاً في مؤتمرات أو رئيساً لوفود، ما يعني أنه يمتلك صورة كاملة لتطور علاقة الذات الإفريقية مع نفسها، صورتها عن الذات والآخر، مع إلمامه الكامل بالتواريخ المفصلية وبطبيعة المساهمات النظرية التي منحت الذات الإفريقية الثقة في قدرتها على تجاوز الاستعمار النفسي الذي رسخته الأنثروبولوجيا الاستعمارية، أو تلك التي رسخت شعور الاغتراب والدونية. هذا الأمر دفع الفكر الإفريقي إلى اعتماد سياسة رد الفعل دفاعاً عن الاستقلال المنشود والتحرر الثقافي.
ركزت محاضرة شعراوي و «حضور الفكر الإفريقي في صراعات العولمة» على المسار الإفريقي في علاقته بذاته وبمفهوم العروبة الناصرية. وتبدو تفاصيل هذه المرحلة ثرية سواء من ناحية الأفكار أو المبادرات التي بدأت منذ عصر الاستعمار مثل حركة الجامعة الإفريقية، أو حركة الكنيسة الإفريقية المعروفة باسم «الإثيوبيانية»، أو تلك التي جاءت تالية له بما يعرفه الدارسون باسم «ما بعد الكولونيالية»، والتي أفرزت على سبيل المثل موسوعة «التاريخ العام لإفريقيا» في ثماني مجلدات، وضعتها أحد أكبر لجان اليونسكو في انتصار للمعركة التي خاضها السنغالي مختار مبو، والمجلس الإفريقي للبحوث الاجتماعية ومنتدى العالم الثالث وجمعية العلوم السياسية الإفريقية.
في استعراض تطور البحث عن الذات، يؤكد شعراوي أنه يتبنى النظرية الاجتماعية التي تولي البعد الثقافي اهتماماً مساوياً للبعد السياسي، وعليه لا يكون المؤشر الوحيد هو رضى الجماهير أو سخطها. وعلى رغم الجهود التي عملت على مسألة الهوية الإفريقية، والتي كانت تضم الكثير من الحركات الدينية «التحررية» المعروفة بخطابها التقدمي تجاه مسألة التعليم والمرأة، لم تنج القارة من حركات الإسلام السياسي، التي هي جزء لا يتجزأ من صراع العولمة. وقد تزامن مع صعود الإسلام السياسي انتعاش حركة الليبرالية الجديدة (قد يكونا حركة واحدة) ومن ثم توحش العولمة الاقتصادية والمعرفية التي تجلت آثارها في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فتحولت الحركات الديموقراطية الجذرية إلى حركات تنموية تحاول إرضاء الديموقراطية من دون أن تُغضب الليبرالية.
ومع برامج التكيف الهيكلي، انطلق ما يُسمى «الربيع الإفريقي» في أوائل التسعينات، حيث بدأت المطالبة بالاستقلال الاقتصادي، ناهيك عن الثقافي الذي لم يكن قد تخلص من تراكمات الفكر الطبقي الاستعماري. ومع توحش اقتصاد السوق وضعف القيادات السياسية، ظهرت فكرة تصفية الاستعمار بدلاً من ما بعد الاستعمار. وهي الفكرة التي أراها محورية ورئيسة بالنسبة الى أي باحث في الشأن الإفريقي، ولا سيما في الأدب والثقافة.
وبدلاً من الانطلاق من فرضية التفاعل الثقافي في مرحلة ما بعد الاستعمار، لابد من العودة إلى المراحل الأولية للنظرية كما وضعها فرانز فانون أو ويليام دو بوا للعمل على تصفية الاستعمار، الذي ترك القارة في حالة من الاستقلال الصوري، ما منع البنية الفكرية من النجاح في التقدم نحو استقلال نفسي حقيقي. يبدو مصطلح «تصفية الاستعمار» أدق كثيراً من مصطلح الاستعمار الجديد الذي ظهر في العقد الماضي.
يشير حلمي شعراوي إلى سياسة «تصفية الكولونيالية» بوصفها مدرسة جديدة ظهرت في جنوب إفريقيا، وبالتحديد في ثورة طلاب الجامعات ضد المناهج التعليمية، والإضرابات التي أدت إلى إسقاط تمثال «سيسيل رودس»، وهو رمز للاستعمار في جامعة كيب تاون. وقد تمّ إسقاط التمثال في 15 آذار (مارس) 2015، ومنذ ذاك الحين انطلقت حركة «لا بد من إسقاط التمثال»- لاقت اهتماماً عالمياً- خصوصاً أن المطالب بإسقاط التمثال كانت قائمة منذ خمسينات القرن الماضي. تهدف هذه الحركة عموماً إلى القضاء على العنصرية المؤسسية في الجامعة، وهو ما يؤكد حقيقة إلغاء نظام الفصل العنصري الذي لم يمس البنية التحتية للفكر الاستعماري.
جاءت محاضرة حلمي شعراوي كاشفة للكثير من الأبعاد التي لا بد أن يكون أي باحث في الآداب الإفريقية على علم بها، وبدلاً من محاولة تطبيق نظريات ما بعد الكولونيالية في شكل جاهز علي نص أدبي، لا بد من النظر في السياق الذي أنتج هذا النص. جاءت المحاضرة لتصحح المسار الفكري، والرؤية التي تتبناها كل رسائل الماجستير والدكتوراه تجاه أدب القارة الإفريقية، إذ تعتمد كلها على تحليل الإستراتيجيات النصية في شكل يتوافق مع النظريات التي تسعى إلى تأكيد حدث الاستقلال وتبعاته، وهو سياق لا يهتم كثيراً بسياسات صندوق النقد الساعية إلى إفقار الشعوب.
وإذا كان صمويل هانتيغتون أثبت صدام الحضارات ممهداً بذلك لســيادة اليمين المتطرف، فإن حلمي شـــعراوي يؤكد الصدام بين الفكر العولمي الجديد مع المحاولة الإفريقية المستقلة لبناء فكر وطني مختلف، وهو الأمر الأكثر احتراماً والأجدر بالاهتمام في ما يتعلق بوجودنا في المنظومة العالمية. لنصفي الاستعمار أولاً ثم نفكر في الـ «ما بعد».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى