«قطار الملح والسكر» و«استراحة قصيرة»: ضحايا الحروب من موزامبيق حتى أفغانستان

محمد عبد الرحيم

ما بين حرب أهلية هنا، وجيش مأجور في مكان آخر هناك، لا يحسب أحد أنه سينجو، لم تعد الحياة كما كانت بعد تجربة الحرب، ولم يعد الشخص الذي فاز بحياة أخرى بخروجه حيا من حرب كما هو من قبل. تساوى الجميع في كونهم ضحايا، أحياء كأموات. ربما يُشفى البعض من جروح الجسد، لكن جرحى الروح سيظلون في جحيم لن ينتهي. ثيمة الحرب وضحاياها وإن تباينت المعالجة والموضوع، كانت أساس كل من الفيلم البرتغالي «قطار الملح والسكر» والفرنسي «استراحة قصيرة». وإن كان الأول يستعرض فترة الحرب الأهلية في موزمبيق، فالآخر يتناول حال كتيبة فرنسية ذهبت ضمن القوات الدولية للقتال في أفغانستان. ورغم اختلاف عالم الفيلمين من أسباب ودوافع، إلا أن النتيجة واحدة، فالجميع خاسرون، وهم في النهاية ضحايا ولعبة في يد قادتهم. عُرض كل من الفيلمين في إطار المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ 38.

قطار الملح والسكر

الفيلم سيناريو وإخراج ليسينو أزيفيدو، ويحكي عن فترة الحرب الأهلية في موزامبيق عام 1988. قطار يحمل بعض المواطنين من مدينة لأخرى، حيث لا يمتلكون إلا الملح، ويذهبون إلى المدينة إلى أخرى بالسكر والعودة مرّة أخرى. ونظرا لنشوب حرب أهلية، فرحلة القطار هذه عبارة عن رحلة إلى الجحيم، فالقطار يؤمه ويتحكم به ومَن عليه بعض من جنود الجيش، لمحاربة المتمردين، وحتى يصل القطار ويعود في سلام. الأمر هنا لا يقتصر على محاربة المتمردين، بل سيطرة وسلطة رجال الجيش على مواطنيهم، بحجة توفير الأمن ــ الحجة الدائمة في الدول ذات الحُكم العسكري ــ فهل تكون الحرب ذريعة لأن يغتصب أحد القادة امرأة أحد المسافرين؟ نعم، فهو مقاتل ويدافع عن الجميع، وحينما يشكو أحد الجنود إلى القائد، يرد الأخير بأن المغتصب يحمل أوسمة الشجاعة، والأمر لا يحتمل فنحن في حالة حرب. هكذا يكون الصراع الأساس، بخلاف صراع الحرب المُعلن، حتى الفتاة التي أحبها الضابط الذي يحمل بعضا من القيم، يحاول الآخر التعدّي عليها، ويرى في جميع النساء حقا وملكا له. من ناحية أخرى نلحظ حالة الموت المجاني، والرصاصات المتطايرة التي تصيب العديد من راكبي قطار الموت، كامرأة تلد في الطريق، والعديد من الرجال والعجائز. وفي الأخير يصبح الثأر ما بين الجنديين المتصارعين منذ البداية، وبعد القضاء على زعيم المتمردين وتعليقه في مقدمة القطار، وهنا يصبح الانتصار قد تحقق لهذه الفرقة الوطنية من الجيش، إلا أن كلا من الجنديين يحمل ضغينته تجاه الآخر، ويسارع كل منهما بإصابة الآخر، ليسقطا معا، وقبلهما يدفع القائد روحه ثمنا لشجاعته وسيره في منطقة ألغام، ربما هو الوحيد الذي حاول تطبيق شيء من العدل، لذلك لم ينته، وتحول إلى شبح يسير بين الجميع. يتماس الفيلم مع دول العالم الثالث، وكأن ما يحدث في موزمبيق ليس بالغريب علينا، من سلوك قادة العسكر وتصرفاتهم، خاصة إذا ما كان تعاملاتهم مع المدنيين، لم نلحظ اغترابا في مقولاتهم وأفعالهم، وما العمل الدرامي إلا تكثيف لهذه الحالات، وخلق حالة من التوازن بين الشخصيات، التي كان مصيرهم جميعا هو الموت، فلا توجد إلا الخسارة ليس أكثر.

«استراحة قصيرة»

الحال في هذا الفيلم مختلفة، فهؤلاء جنود تطوعوا للذهاب إلى أفغانستان، ضمن مجموعة الجيش الفرنسي، وقد حارب بالفعل أكثر من 70 ألف جندي فرنسي في أفغانستان. الفيلم سيناريو وإخراج ديلفين وموريل كولين. وعبر بطلتي الفيلم ــ رغم أنه ينتمي إلى حالة البطولة الجماعية ــ نعرف أنهما تطوعتا بسبب البطالة، فهما إذن في حالة حرب ليست ضمن مقولات الوطن والوطنية وما شابه، ولكن النظرة الغربية في تحقيق العدل الواهي، واجتثاث الإرهاب الذي صنعه الغرب في الأساس. ابتعد الفيلم عن مشاهد الحرب، وأراد أن يُظهر تأثيرها على الجنود، لذا تتوقف رحلة العودة من أفغانستان إلى فرنسا في قبرص، حتى تتم عملية إعادة التأهيل النفسي للجنود في منتجع سياحي، حتى يمكنهم التواصل مرّة أخرى مع مجتمعهم. فرحلة الذهاب لم تكن هي أبدا رحلة العودة. هنا نرى مدى التشوّه الذي طال الجميع، حيث الكوابيس وردود الأفعال العنيفة، وما التوقف هنا أو هذه الاستراحة القصيرة إلا علاج نفسي كضرورة لاستئناف الحياة. ولكن الجميع يحمل تبعات الحرب، رغم اعترافاتهم ومحاولات محو الذنوب، من قتل وتدمير ــ تخدير الضمير الأوروبي ــ وعندما يحاول أحد الجنود فضح أخطاء الجيش وما فعلوه هناك، تم استبعاده على الفور. فالمقولة الجاهزة من القيادة هي أن «ما وقع في كابل يبقى في كابل». وقد اكتشفت إحدى شخصيات الفيلم أن الجميع مجرّد أداة في يد القيادة السياسية والعسكرية، أداة لتحقيق أهداف دولة الحرية والإخاء والمساواة.

الجانب التوثيقي

كل من الفيلمين يتعرض إلى حادثة حقيقية، سواء الحرب الأهلية في موزامبيق، أو وجود الجيش الفرنسي في أفغانستان. لذا نلمح السمة التوثيقية للأحداث، وإن كانت الروائية تغلب على فيلم «قطار الملح والسكر»، إلا أن الحِس التوثيقي يغلب أكثر على الفيلم الفرنسي «استراحة قصيرة»، تبدو نماذج الشخصيات وحكاياتهم أقرب إلى شخصيات حقيقية خاضت الحرب بالفعل، وما الاعتراف أمام الطبيب النفسي في المنتجع السياحي، إلا جزء من اعترافات مطولة استعان بها السيناريو عبر شخصيات حقيقية، وما التفاصيل الروائية/الخيالية إلا لصياغة هذه الحكايات في شكل درامي مترابط، يبدو هذا من أسلوب التصوير من أحجام وزوايا اللقطات وحركة الكاميرا، على النقيض من الحبكة الروائية التقليدية والشكل الميلودرامي الذي انتهجه الفيلم البرتغالي. الحال أن الفيلمين نجحا في رسم صورة ضحايا الحرب، وأن اللعبة تدار لصالح شخصيات أخرى، تريد استمرار الحرب وتحقيق المكاسب، وما الجنود أو المدنيين إلا أداوات لازمة لاستمرار مسلسل الكذب. إدانة واضحة ومرثية متباينة الأسلوب للضحايا في كل مكان.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى