اليمني زكيّ يافعي… قراءة مختلفة في «التشكيل» الواقعي

أحمد الأغبري

تَحضرُ الواقعية في المحترف التشكيلي اليمني بشكل مختلف عما عداه عربيا لأسباب متعلقة بعدم وجود أكاديميات فنية، بالإضافة إلى الخصوصية الجمالية للبيئة المحلية المُتميزة بتفاصيل وملامح ماتزال تستهوي الفنانين. ولم يتجاوز معظم فناني جيلي الوسط والشباب، هذه المدرسة، بل أن بعضهم تجاوز النقل والرتابة وانتقل برؤيته وتقنيته إلى مستوى صارت معه لوحته الواقعية جديرة بالتوقف أمامها دهشة وإعجابا وتساؤلا أيضا.
من هؤلاء الفنانين يبرز زكي يافعي (1972) متميزا بلوحة ارتبطت كثيرا بالمكان ولم تتجاهل الإنسان، وتعبر عن رؤية فنية اشتغل فيها الفنان على الروح المشتركة بين الهيئة الإنسانية والبيئة المكانية؛ وهي أعمال سبقه إليها – بالتأكيد- واقعيون آخرون من جيله وأجيال سابقة، إلا أنه تميّز رؤيويا في اصطياد مناظر لها قيمة إنسانية عالية موازية لقيمتها التاريخية الثقافية الباذخة، علاوة على اشتغاله على هذه القيمة والرؤية (تقنيا) بمهارة لونية وضوئية متلازمة مع دقة في التشكيل واتزان في التكوين.. فتقدم لوحته قراءة مختلفة لمناظر مألوفة.
مما لا شك فيه أن استمرار التجريب والقراءة كمصادر ذاتية لتطوير التجربة قد مكّنت يافعي من الانتقال بها إلى مستويات متطورة في إطار المدرسة الواقعية، حتى أصبح معها، واعيا وماهرا في التعامل مع أدواته والتعبير عن رؤاه… فبعد المرحلة الفوتوغرافية كان من الطبيعي، مع استمرار التجريب، أن تنتقل تجربته إلى الواقعية التعبيرية والانطباعية والتعبيرية الانطباعية، خاصة أعماله الأخيرة داخل المدينة القديمة في صنعاء.
يتجلى، في هذه الأعمال، مستوى التطور الذي تحقق له رؤيويا وتقنيا؛ فأصبح واعيا بالتشكيل الواقعي (أدوات ورؤى)؛ وهو الوعي الذي أعاد، من خلاله، النظر في علاقته بالفن التشكيلي، وبالجمال (كقيمة مرتبطة بالتشكيل من وجهة نظره كفنان واقعي) مُدركا بهذا، أن مهمته كفنان هي البحث عن قيم جديدة للجمال في باطن المنظر، وبالتالي استنطاقه والتعبير عنه، على السطح. ونتحدث هنا عن بُعد فني مهم في التشكيل الواقعي لا يمكن تجاوزه عند اعتبار مثل هذا العمل إضافة فنية ليس للفنان وحسب وإنما، أيضا، إضافة للمنظر في الواقع نفسه. قد يكون من نافلة القول التنويه بتجربته اللونية والضوئية كعاملين مهمين يميزان هذا الفنان؛ فتعامله مع (الألوان والأنوار) مختلف وأكثر تميزا من تعامله مع المهارات المنضوية في إطاريهما كمهاراته في التحكم في حدة التباين ونِسب الإشباع اللوني على انعكاسات الأضواء والظلال وغيرها من المهارات التي يشتغل بواسطتها بعناية حتى على التفاصيل الصغيرة. وقد عززت هذه المهارات – بلاشك- من خصوصية علاقة يافعي باللوحة الواقعية؛ التي تتجلي كثيرا في الأعمال المرتبطة تعبيريا بالمكان، كأعماله عن قُرى مسقط رأسه في يافع/ جنوب اليمن، متجاوزا رومانسية وانطباعية البورتريهات والمناظر، كلا على حدة، إلى أعمال (تعبيرية انطباعية) اتسعت فيها مساحة البورتريه لتشمل معظم تفاصيل الهيئة الإنسانية متكئة على أرضية وخلفية تتناغم فيها هوية الإنسان بهوية المكان.
وتتمثل أهم هذه الأعمال – كما أشرنا آنفا- في اللوحات المرتبطة بمدينة صنعاء القديمة، خاصة الأعمال التي اشتغل فيها على وجوه وهيئات المُعمّرين من سُكان المدينة، في إطار يشمل محيط وخلفية اللحظة… مُتميزا في أعماله هذه، عن بقية أعمال الفنانين الآخرين، باجتهاده على إبراز خفايا المنظر من مشاعر وأحاسيس الشخوص من خلال تركيزه على خصوصية اللحظة الزمنية الاجتماعية واشتغاله المتقن على تفاصيلها الثقافية؛ فتأتي اللوحة محملة بكمٍ كبير من الأحاسيس، يشعر بها المشاهد لدرجة متوحدا بمعانيها؛ كلوحته التي جسد فيها شيخا يُعلّم أطفالا قراءة القرآن، أو لوحته تلك التي تتضمن مشهد رجل عجوز يمشي في الشارع وهو يحملُ طعاما شعبيا بين يديه يحثُ الخُطى نحو منْ ينتظره… وفي هذه اللوحة كان الفنان بديعا في الاشتغال على مستويات مختلفة من شفافية الأضواء وهو ما يتجلى بوضوح ـ مثلا- في كيس البلاستيك الذي يحمله الرجل بجانب الطعام، إذ استطاع الفنان التعامل بمهارة على انعكاسات الضوء على الكيـــس… وهذه المهارة اللونية والضوئية ـ كما سبق الإشارة – ساعدت الفنان كثيرا في منح لوحاته تلك الهالات الشعورية.. وهذه الجزئية اشتغل عليها يافعي ببراعة لدرجة تشعر بتماهي تفاصيل الوجوه مع تفاصيل المكان؛ ففي لوحة الرجل الجالس على رصيف الشارع مُتكئا على جدران المعمار؛ يمكن ملاحظة مدى التماهي بين تجاعيد الوجه وتجاعيد حجر الجدران الذي يتكئ عليه… وهنا تتعدد القراءات للمعنى وتنفتح اللوحة كثيرا.
يظهر هنا لكاتب السطور أن علاقة يافعي بالألوان، خاصة الزيتية قد استقرت بدرجة كبيرة، وعلى ما في ألوانه من برودة إلا أنها تأتي معبرة عن الألوان الطبيعية للمدينة ومفعمة بالمعنى الشعوري للإنسان والتاريخي للمكان.. ومثل هذا المستوى يأتي نتاج تجريب لوني يمر بمراحل وطبقات داخل اللوحة حتى يصل إلى التعبير اللوني المناسب عن الشكل والملمح الذي يريده الفنان. كل هذا يضع الفنان أمام تحدي الانفتاح على مدارس جديدة لاختبار قدراته وإنضاج تجربته، وهو ما ننتظره منه لاحقا، كطريق لابد منه لاكتشاف مثالب التجربة وتطويرها.
يعتمد هذا الفنان، الذي شارك في معارض عديدة ونال عددا من الجوائز، في اختيار مناظره، على النزول إلى المدينة والتنقل بين أحيائها وأسواقها ومساجدها، وما أن يستفزه منظر حتى تجده يلتقط له صورة فوتوغرافية أو يرسم له اسكتشا سريعا… وفي مرسمه يبدأ في قراءة المنظر ورسم اسكتش أوسع ينتقل بعدها إلى اللوحة، وفيها يُعيد قراءة المنظر؛ فيضيفُ ويحذف أي تشوهات تطال المنظر انطلاقا من قناعته بأن الفن هو رسالة جمال من شأنها إذا تمت قراءتها جيدا أن تُسهم في تصويب الوعي الإنساني للجمال.
زكي يافعي، الذي تخـــــرج في كلية الطيران، يعتمد بدرجة رئيسية في معيشته على مبيعات لوحاته، وهو ما يضع لوحـــته وجها لوجه أمام السؤال عن تأثير إنجاز لوحة للبيع على القيمة الفنية. وهنا يؤكد اشتغاله وفق قيم العــمل الفني «في الأخير لديّ أسرة وأبناء ونفقات معيشة ومدارس وغيرها بما فيها نفقات الألوان والقماش… ولكن، الفنان، في الأخير، يستمدُ قيمته من مــدى إخلاصه للقيمة الفنية للوحته».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى