أمير تاج السر.. «زهور تأكلها النار» ثم تورق بالحكاية

أنطون أبو زيد

واصل الروائي السوداني أمير تاج السرّ في روايته الأخيرة مسيرته الكتابية برواية ذات طابع خاص، بل ذات توليفة وأسلوب راسخين في ما توالى من كتاباته الروائية. تتألف رواية «زهور تأكلها النار» من أربعة فصول، الأول بعنوان «شغف ومدينة»، يسرد فيه الروائي، على لسان الراوية «خميلة» بداية حبّها شخصا يُدعى ميخائيل رجائي، وتهيّئ له أمكنتها، وتعدّ له ذاتها وهي الفتاة العشرينية، القبطية من والدين سوداني وإيطالية، وتحمل في ثناياها جمالات المنبتين. وبينما تواصل الشخصية «خميلة» رسم حدود عالمها المكاني (مدينة «السور») من دون أن تعيّن زمناً واضحاً ولا حقبة واضحة لجريان الأحداث في الرواية ـ مع أنّه إطارٌ لازم لاستكمال الصدقية في الرواية ـ يتبيّن للقارئ أنّ الروائي إنما شاء أن يتيح للغموض البنّاء تنمية السيناريوهات الممكنة عن الكاتب، على حدّ ما طرحه أمبرتو إيكو في كتابه «القارئ في الحكاية». ولربما شاء الكاتب أن يشيع الظنّ بأنّ الزمن معاصر للسرد، بدليل ما يجري من أحداث مماثلة لتلك التي يرويها الكاتب أو التي يتوالى سريانُها، في الفصل الثاني والثالث والرابع، والتي تعدّ استنساخا لأحداث واقعية جرت فعلا في أفريقيا، على أيدي «عصابات بوكو حرام» أو «داعش» في مشرقنا العربي، وهي تعمّد هذه العصابات الاستيلاء على المدن والقرى وجعلها إمارات له وسوق النساء سبايا لمقاتليهم وأمرائهم. بيد أنّ رسم الإطار المكاني الأول، عالم خميلة، كان يشي بأنه إطار أنتروبولوجي مثالي، ينخرط فيه المسيحيون الأقباط (خميلة، وميخائيل، وفاسيلي) الى جانب المسلمين، واليهود (إيزاك) من ذوي المهن العالية الجودة، بعضهم الى جانب البوذيين القادمين الى «السور» لسبب أو لآخر، نظير «أمبيكا بسواس» زوجة باسيلي.

«عدة العرس»
الفصل الثاني من الرواية، وكان بعنوان «ليل» يمثل بلا شكّ العقدة التي سوف تتحكّم بمسار الأحداث بالفصلين الآخرين: ومفاد ذلك أنّه «في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر»، وفيما كادت تكتمل عدّة العرس بين خميلة وميخائيل، إذا بأخبار تتوارد عن جماعة «الذكرى والتاريخ» المتشددة بأنها مزمعة على مهاجمة مدينة السور.
وبالفعل، لم تمض أيام حتى بدأت ملامح انقلاب دامٍ يجري في المدينة، على يد رجال المتّقي الذين كانوا قد تواروا عن الأنظار لفترة من الزمن. عند هذا الحدّ تتوقف عجلة الأفراح في المدينة، ويبدأ زمن الاستعداد لمواجهة هذه الجماعة؛ فيروي لنا الكاتب كيف أنّ (خميلة) وحبيبها ميخائيل يمضيان في التثبّت من جاهزية أهل المدينة لمواجهة الغزاة الجدد، فينتهيان، بل تنتهي الراوية الى نزع خاتم الخطوبة من يدها، لشعورها بأنّ مصيرا قاتما سوف ينتظرها على يد الجماعة التي مضت تكفّر الناس وتحكم عليهم بالإعدام لأتفه الأسباب أو لمخالفتهم شرائع هذه الجماعة ومصالحها.
وفي الفصل الثالث، وعنوانه «النار»، تروي الراوية نفسها (خميلة) بعض ما أعقب الغزو على «السور»، وقد أخذت (خميلة) ونساء المدينة، المسلمات والقبطيات على حدّ سواء، سبايا، وبتن من مقتنيات جماعة «الذكرى والتاريخ»، يتحكم الأمراء فيها برقابهن وبجسومهن على هواهم. وبالطبع، تتحوّل حياة خميلة من وشك الزواج في إطار كوزموبوليتي راق الى حياة جحيمية في بيوت وأحياء يرين عليها البؤس، أحياء الضواحي الفقيرة، ويشكّل المخصيون فيها حلقة الوصل بين المسبيات الجواري وبين الأمراء في الجماعة وقد وكّلوا نساءً (أم الطيّبات) مؤمنات بمهمة هداية المسبيات من غير المسلمات، مع التشدد بشأن الخارجات على الطاعة أو الساعيات الى الهرب من الأسر، إذ كان مصيرهنّ القتل بحدّ السيف، كما حصل لفتاة تدعى «طائعة».
أما الفصل الرابع الذي عنوانه «النار أيضا» فقد كان مفاجأة، من حيث الحبكة القصصية؛ إذ خرج لولو أحد الغزاة، من سكان «السور» القدامى، في اللحظة المناسبة، أي قبيل أن تزوّج نعناعة، أو خميلة، بأحد أمراء جماعة «الذكرى والتاريخ». وتُحررُ الفتاة بأن نقلها المذكور على ظهر دابته، ملفوفة بالملاءة على أنها «جسد ملعون لملحد نجس قتلوه في السور» (ص:188)

الإرهاب
لا شكّ بأن الرواية، وإن تزامنت مع العديد من مثيلاتها التي تتناول موضوعة الإرهاب، فهي تتميز بأمور لافتة جديرة بأن تعالج بعمق في غير هذه العجالة؛ من مثل استدخال الشعر في السرد، وفي مواضع معينة من الرواية، ربما تمثلا بأسلوب ألف ليلة وليلة، والخطاب المعادي للإرهاب المدمّر كلّ حياة وكلّ تمدّن، والتعليقات بهذا الخصوص المبثوثة في ثنايا العمل الروائي خير دليل. ثمّ، لا ننسَ التضمينات الكثيرة التي انطوى عليها الكتاب في ما خصّ الجمال والقبح، وفي جمال القبح ونسبيّتهما، وثقافة الكاتب الانتروبولوجية التي جنّبته الانزلاق الى تحيين الرواية، أو موضعتها في زمان واقعي ومكان واقعيين أوشبيهين بالواقع الحقيقي، وغيرها من الأمور اللافتة. ومهما يكن، فإنّ من شأن قراءة الشخصيات أن يكشف عن خطاب الروائي الكامن في صورهم، على حدّ ما يقول بول ريكور. أو تكون الزهور التي أكلتها نار الإرهاب عُقارا لإحياء الحكاية، الرواية العربية؟

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى