«زهور» أمير تاج السر تأكلها النار

لنا عبد الرحمن

بين وقائع تاريخية تخيلية ماضية، وحاضر معيش يعجّ بالتعصب والطائفية والاضطرابات الدينية والعرقية، يعود الكاتب السوداني أمير تاج السر في روايته «زهور تأكلها النار» (دار الساقي) ليقترب بسلاسة سردية من عوالم الحروب والتدمير والتشرّد، وكيف يتم تحويل الأماكن الآمنة إلى بؤر رعب وخرائب. والأسوأ من هذا كيف يتم تحويل النساء إلى سبايا ضمن الفوضى الكبرى واللاقانون الذي يجرّد البشر من إنسانيتهم.
تبدأ الرواية مع «خميلة»، البطلة الساردة، وهي تتكلم منذ السطور الأولى بضمير الأنا عن أسرتها، أمها الإيطالية التي جاءت من ضواحي فلورنسا، وتزوجت من رجل إفريقي قبطي، ثم حكايتها هي مع خطيبها ميخائيل رجائي، الذي يعمل محاسباً في مجلس المدينة.

أما مكان الأحداث فهو مدينة «السور» التي تجمع ديانات وأعراقاً عدة لكنها ليست كبيرة أو معقدة. إنها مدينة يستنتج القارئ في ما بعد أنها تقع في بلد إفريقي قريب من مصر. أما زمن الأحداث فيعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، حيث كان يحكم المدينة تركي عجوز جشع ومتغطرس يُدعى يوسف دامير.
هذه المرة، يقترب صاحب «توترات القبطي» الذي كتب عن بيئة شعبية يعاني أبطالها من مأساوية اللجوء والتشرد، من حكايا البشر الآمنين الذين تنقلب حياتهم بين ليلة وضحاها من حال إلى حال بسبب سيطرة روح التعصب والقبلية والرغبة في إبادة الآخر ذي الهوية المختلفة. ربما لا تبدو أزمة الهوية مطروحة في شكل مباشر في الرواية منذ البداية، حيث العنوان التقليدي للنص لا يشي بمضمونه المنسوج في شكل سردي متماسك، ويخلو من الترهل حتى في الحكايات الجانبية، فقد جاءت منسجمة مع السياق العام للسرد؛ إلا أن أزمة الهوية في شكلها العميق والمتجذر في الذوات المتعصبة تنعكس بحضور قوي على مصائر أبطال الرواية، وتشكل قدرهم الذي يتحول رغماً عنهم ومن دون اختيار.

البيئة والفضاء
تنقسم الرواية إلى أربعة فصول، ويستمر السرد عبر شخصية الراوية خميلة. اختار الكاتب تشكيل بناء داخلي عبر وضع أرقام ضمن الفصل الواحد. يحمل الفصل الأول عنوان «شغف ومدينة»، ويُعتبر فصلاً تمهيدياً رائقاً يركز فيه الكاتب على البيئة والفضاء الذي تدور فيه الأحداث. وهو لا يكشف عن توتر السرد في الفصول اللاحقة، على اعتبار أن النص يقدم حكاية البطلة وعالمها الخاص، أسرتها، قصة حبها، دراستها علم الجمال في مصر، علاقاتها الاجتماعية بالنساء من حولها… ويقدم أيضاً وصفاً للمدينة، الأعراس، العلاقات الوطيدة بين المسلمين والأقباط والبوذيين، العادات الإفريقية بين السكان، كأن تكون ثمة خرافة حول تشرين الثاني (نوفمبر)، بأن كل شخص ينبغي أن يصنع فيه عطره الخاص ويهديه لمن يحب.
في الفصل الثاني الذي يحمل عنوان «ليل» تتصاعد وتيرة الأحداث في شكل مباشر، تُطعن العجوز الفرنسية جيلال على يد ملثم مجهول، وأتاب عيسى يعثرون عليه مذبوحاً، كما اغتصب الملثمون رسامة تدعى كاترين اتخذت من السور مكاناً لها كي ترسم الحياة الشعبية، انتهكوا جسدها وهم يصرخون «كافرة».
تقول خميلة: «تذكرت أن هناك من ردد بصوت متشنج أن الحيات قد قصت رؤوسها، وفي معمعة بليدة كهذه، قد تكون حية أي قبطي، أي بوذي، وأي مسلم مسالم لم يعتدِ أو يسمح بالاعتداء». لكنّ خميلة تكشف أيضاً عن الصفقات التي تعقد في مثل هذا النوع من الثورات والحروب، حيث تتم تسويات بين زعماء الميليشيات وتجار الحــروب المنتفعين منها، إيزاك اليهودي تاجر الذهب لم يقطع رأسه، وكذلك فندوري تاجر الخمور. أما ولهان الخمري – قواد «حيّ ونسة» – فظل في مكان ما لكنه لم يفقد رأسه.

قصة السبي
تقع خميلة سبية في يد جنود المتقي، هي التي كان والدها جماري عازار تاجر ذرة، يقوم بتخزين الذرة في مخازنه، وإخفائها عن السوق بحثاً عن المكسب، وهذا سبب كاف للانتقام منه، وسبي ابنته، يتغير اسم خميلة إلى نعناعة عند جنود المتقي، وبرفقة فتيات أخريات تظل حبيسة سرداب ساحة المجد بحراسة أم الطيبات أو منحدرة المرأة الريفية الخشنة، ومن هنا يبدأ عالمها بالتحول الكبير، وهي تراقب ما يحدث حولها للفتيات السبيات وكيف يجبرن على الصلاة والصيام، على العمل في الطبخ والغسيل وإعداد الشاي، ثم في الليل يتحولن إلى أدوات متعة لنزوات متوحشة.
يأتي عنوان زهور تأكلها النار، من دلالة رمزية عن وشم قامت ماريكار صديقة خميلة بوشمه على ظهرها عند أحد فناني الوشم البارزين في المدينة، والوشم عبارة عن زهور ملونة تأكلها نيران كثيفة، ومعنى هذا الوشم هو خسارة الأريج والرونق، ذكرى هذا الوشم تلوح في مخيلة خميلة وهي سبية مع ماريكار أيضاً عند جنود المتقي، تقول: «الزهور التي تأكلها النار، لشد ما يمثلنا الشعار، لشد ما يصبح نحن ونصبح هو.. ثلاثون يوماً مضت ونحن أسيرات بيت أم الطيبات، زهوراً تتربع في النار».
كان الجهاديون ثوار المتقي قساة فعلاً، مجانين، غوغاء، وأي شيء متأخر في الدنيا، لذا يكشف السبي لخميلة حقيقة الأشخاص من حولها، خطيبها ميخائيل الذي تكشف شخصيته كيف هو ذليل جداً، بالمقارنة بباسيلي الذي حاول استعادة زوجته أمبيكا من أيد الجهاديين، تتغير خميلة ويبدأ وعيها بالتفتح فترغب في دراسة الشريعة فقط لتعرف موضعها من فتوى المتقي وجنوده، لكنها تكتشف أنها عالقة في شرك لا علاقة له بالعقائد.
في الفصل الأخير «النار أيضاً»، يكشف الكاتب عن التحولات التي حصلت لمدينة السور ككل، ليس للفتيات السبيات فقط: البيوت مهدمة، الأشجار مجتثة من عروقها، والحرائق مازال رمادها يتجدد باستمرار.
تقدم خميلة وصفاً دقيقاً لحياة السبي، والرجال الخصيان الذين يتحولون إلى حراس للغنائم، إلى أن يقع الاختيار على خميلة لتزف إلى المتقي. ولكن من هو المتقي؟ هل هو موجود حقاً؟ ربما المتقي ليس حقيقة على الإطلاق، إنه مجرد فكرة يستخدمها أتباعه كي ينتهكوا المدن، ويسبوا النساء، كي يحققوا مآربهم من السلطة. هكذا لا يبدو أن خميلة تمكنت من الفرار حقاً من السبي، لأن جنود المتقي مبثوثون في كل مكان، لتأتي الجملة الأخيرة في الرواية «أسمع صوتاً عجوزاً غاضباً يأتيني من بعيد: من لولو يا نعناعة!»، أي أن استخدام اسم نعناعة يكشف أن محاولة الهرب مع الخصي لولو فشلت أو أنها كانت مجرد حلم.
استطاع أمير تاج السر عبر هذه الرواية أن يقدم تخييلاً روائياً لما يجري في واقعنا اليوم، ويجيب عن بعض التساؤلات عن أحداث تبدو قريبة وبعيدة منا، لكنها تؤثر في حياتنا في شكل أو آخر. وجود التطرف والإرهاب الذي يحيط بنا أصبح أمراً واقعاً، وصار من الطبيعي أيضاً أن نجده مغزولاً بحنكة روائية في أعمال إبداعية عدة. ولو أن الرواية تنتهي في شكل متشائم لا يُنبئ عن حدوث تحول أو تنوير في المستقبل القريب، إلا أن هذه النهاية أيضاً تبدو واقعية جداً وعاكسة لكثير من الحقائق القريبة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى