عبدالرحيم كمال روائي الفنتازيا الواقعية

يسري عبد الله

عن عالم يمتزج فيه الواقعي بالمتخيَّل، وتختلط فيه الحقيقة بالحلم، يبني الكاتب المصري عبدالرحيم كمال روايته «بوَّاب الحانة» (دار كيان)، منشغلاً بتوسيع المعنى، عبر مجموعة من الإحالات إلى التراث الصوفي، وانطلاقاً من أقصى استفادة لتوظيف قدرات المكان الروائي.
تُعدّ الحانة علامة على مجتمع مُصَغَّر، يحوي بشراً مختلفين، يحيلون إلى جملة من المشارب والاتجاهات والأفكار. لقد تواترت النصوص الإبداعية المشغولة بتيمة المكان الواحد الذي تتقاطع فيه مصائر الشخوص وحكاياتهم على نحو ما نرى في رمزية الفندق في رواية «ميرامار» أو العوامة في «ثرثرة فوق النيل»، لنجيب محفوظ، أو تواجد مجموعة من الأشخاص التائهين في بقعة واحدة في الصحراء مثل مسرحية سعد الدين وهبة «سكة السلامة»، أو رمزية المخبأ في مسرحية محمد تيمور «المخبأ رقم 13».

أما «الحانة» فإنها تغدو هنا مؤشراً على عالم مختلف. بوَّاب (ناطور) الحانة ليس بواباً تقليدياً، هو ليس ساقياً كلاسيكياً للخمر، لكنه أزهري مُعمّم ارتكب إثماً بأن ضرب أحد السكارى الخارجين من الحانة ضرباً مبرحاً، وحرَّض السائرين في الطرقات على ضربه وإيذائه، فعاقَبه شيخُه الصوفي، ثم أشار عليه بأن يذهب إلى الحانة لعلّ سراً ما يتكشَّف له، وهنا تبدو الإحالات الصوفية حاضرة وبقوة. فالسُّكر في التراث الصوفي يعني الصحو، حيث يحيل إلى حال من الوجد، والذوبان، وتتواتر رمزية الخمر، وتصبح تعبيراً عن حال من المحبة العارمة. وفي الرسالة القــشيرية من الإرث الصوفي: «عجبتُ لمن يقول ذكرتُ ربي/ فهل أنسى فأذكر ما نسيتُ/ شربتُ الحب كأساً بعد كأس/ فما نفد الشراب ولا رويت».

تناص شعري
ويتواتر توظيف الرمز الصوفي على نحو التناص مع أشعار عبدالغني النابلسي، وقصيدته الشهيرة «أحزانُنا بلقائكم أفراح»، وعلى نحو التوظيف الدال لشعر الحلاج في المتن السردي للرواية في صفحتي 21، 22. يستنفد عبدالرحيم كمال إمكانات المكان الروائي، موظفاً طاقات الرمز الصوفي، ويبدو بطله المركزي «حسَّان» حارساً للدهشة والحانة في آن. فالتحولات الدراماتيكية في حياته تتقاطع على نحو شفيف مع تحولات تعصف بحيوات رواد المكان، عبدالله العراقي الذي غلبه النعاس وهو يستحم في دجلة ليجد نفسه بعدها في مصر القديمة، فتستقبله فواكه، وتمنحه كل شيء. وفريد الصحافي الانتهازي، والبرديسي الصعيدي، وإبراهيم الباز، الذي يحكي بفنتازيا خلابة عن الأميرة ططر التي تصاحبه في النوم واليقظة بعدما وجدها قطة تموء ذات مساء في ليلة شتوية قارصة، وإترا الألمانية التي تحب مراد، وتظل تراه بعد موته، وغيرهم.
يبدو حسان مثل ولي له كرامات، يأسر كل من حوله، بدءاً من زبائن الحانة، وحتى زوجته سوسن، غير أن «حياة» تظل شاغلاً لا مهرب منه، حتى بعد أن يترك الحانة ويعود إلى شيخه. رحلة دنيوية صاخبة تركن إلى الهدوء في النهايات، في مجازٍ دالّ على الحياة اليومية، والعالم الظاهر الصاخب، تظل حياة مهيمنة عليه، حيث ثمة وجد جديد، يغاير رمزية الخمر، وفتنة الولي، وحب الأقطاب، والوجود، ويعبر عنه حبه لامرأة مشغولة بحب رجل آخر.

تحول سردي
تحمل فصول العمل عناوين تؤدي وظيفة داخل المسار السردي، فكل منها يحمل علامة على جوهره، مثل «عبدالله العراقي/ محنة حسان/ زينب لم تأت سباحة/ ميخائيل صاحب الحانة/ الأميرة ططر/ كذاب يا حسان/ حانة تشتاق لحسان»، أو يكشف عن حالة روائية، ويعبر عن تحول سردي داخل االنص مثل: «أحزان نينوى/ العاصمة/ قتلته أم كلثوم/ الراسخون في الحزن/ إدارة جديدة».
ويبدو بعض الفصول أشبه بقصة قصيرة قائمة بذاتها، من قبيل «وللفنجري قلب»، عن قصة اللحن الشجي الذي طلب العازف الحزين من عبدالله البغدادي أن يعزفه في مشهد من الناس كي يوافق على زواجه من ابنته زينب، والتي ما إن يسمــعها الفنجري، المخبر الذي يتلصص على الحانة ويشرب مع زبائنها أيضاً، حتى يهتز ويرتبك: «ساد الصمت على الحانة، وحاول الفنجري أن يتماسك من أثر السُكر، واتجه إلى باب الحانة وهو يحذر حسان تحذيره المعتاد:- حاول أن… في المرة القدامة… ها. لا تستقيم الجملة فيحدج عبدالله العراقي بنظرة غاضبة. لا يتذكر في حينها الفنجري سر غضبه من عازف الناي، لكنه يخرج مرتبكاً وغاضباً ويترك الحانة لزبائنها المعتادين، وهو يسب في سره الفراق والناي وذلك الرجل الغريب». (ص 40/ 41).
يضع النص قدماً في الواقع وأخرى في المتخيَّل، ويبدو الوصل بين العالمين جيداً، وتأتي المناطق التسجيلية عن وقائع حياتية عابرة ودقيقة، على نحو الإشارة إلى التغول الــسلفي في الســنوات الأخيرة، في صفحتي 107، 108.
يتبقى في النص مشكلتان فنيتان أساسيتان، تتعلق الأولى بالرمزية الجاهزة، التي لها علاقة بتصور يقيني عن العالم، فحسان يترك الخمر والحانة في النهاية ويتجه صوب شيخه، وناس الحانة تتبدل أحوالهم على يد حسان إلا قليلاً منهم. أما المشكلة الثانية، فتتمثل في استخدام الفصحى في الحوارات السردية الساخرة بين رواد الحانة، وقد كان يمكن للعامية بطزاجتها وعفويتها أن تمنح النص حيوية خاصة. تتسع مناطق التخييل في الرواية، في فصل مثل «حال حسان»، الذي يحيل من عنوانه إلى المنحى الصوفي، وفكرة الحال، وتتداخل الأزمنة والأماكن هنا، ويتقاطع أشخــاص متخيلون، في بناء سردي متجانس، تهيمن على فضائه الفنتازيا. وبعد…
يبدو عبدالرحيم كمال الضارب بسهم وافر في الدراما التلفزيونية، في روايته «بواب الحانة» قابضاً على زمام نصه، قادراً على تقديم عالم مختلف، وتوسيع مداه، وتكثيف رموزه ودلالاته، موظفاً اللغة بمستوياتها الدلالية والمجازية توظيفاً محكماً وآسراً في آن.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى