«دينا» محمود الورداني بين ركام الثورة

فيصل دراج

قد يكون في عمل الروائي المصري محمود الورداني الجديد «البحث عن دينا» (دار الكتب خان – القاهرة) ما يذكّر بفكرة أدبية تقول: تزعزع التحوّلات الاجتماعية الأشكال الأدبية المسيطرة. فما جاء به الكاتب، الذي وضع على غلاف عمله كلمة رواية، لا يبدو عملاً روائياً، بالمعنى المتفق عليه، بقدر ما يقترب من «تقرير صحافي» دقيق الملاحظة رهيف اللغة. لا يستأنف العمل روايات الورداني السابقة، مثل «الروض العاطر» و «طعم الحريق» و «بيت النار»… ولا يستجيب توقعات قارئ تقليدي، ينتظر حكاية طويلة تجسّر شخصياتها المسافة بين البداية والنهاية، تنتهي بخطاب روائي، أو ما هو قريب منه.
قرأ الورداني «التحوّلات الاجتماعية» في وقائع مصر الكبرى في السنوات الأخيرة، أو في سنوات «ثوراتها الثلاث»، كما يقول، التي شملت ثورة 25 يناير، وتلتها ثانية دفعت بالمجلس العسكري جانباً، وانتهت إلى ثورة صاخبة ضد الإخوان المسملين، قبل أن ينتهي العام الأول من حكمهم. لذا يقول السارد المسيطر، الذي يفتتح الرواية ويغلقها: «شهدت خلال عامين ما أطاح صوابي، ذلك أنه لم يتحقق على مدى ما يزيد على أربعة عقود خلت أي تغيير أو حتى وهم بتغيير». (ص103)
أملى التغيير الصاعق، وفقاً لمنطق الروائي، الذي بينه وبين السارد المسيطر تداخل كبير، ضرورة توليد شكل روائي يقطع مع الأشكال المسيطرة، لا فرق إن مارسها الورداني سابقاً أو تعارف عليها روائيون مصريون آخرون. ولهذا يبدو الشكل الجديد هجيناً تتمازج فيه سيرة كهل متمرّد مخذول، وإشارات متواترة، إلى زمن السادات ومبارك، وما جاءا به من تخريب وإفساد، وحوار مع ذاكرة المكان القاهري، المشبع بالمساجد والحواري الشعبية والأضرحة والساحات العامة، التي شهدت صدامات مع «الأمن المركزي» وأحزاناً كثيرة، وشهدت تظاهرات «الثورات الثلاث»، التي أدخلت إلى التاريخ المصري الحديث وقائع غير مسبوقة.

تقرير صحافي
أفضت أولوية الوقائع الوطنية – الاجتماعية، على الشخصيات الروائية إلى تقرير سياسي طويل يشبه الرواية، أو إلى ملامح روائية تذوب في تقرير «صحافي» طويل. بدا الشكل الروائي هجيناً، مشبعاً بطموح واسع إلى: رواية جديدة، تستجيب لأحداث لم تعرفها مصر منذ أربعة عقود، وتحتضن «مصر الصابرة»، في أمكنتها المتعددة، وأهلها المتمردين في الحاضر والماضي القريب معاً.
وعلى رغم هذه «الهجنة»، التي تخلع لباساً روائياً مألوفاً وتلمح إلى آخر، فإن في رواية «البحث عن دينا»، على مستوى البنية السطحية، ما يمتثل إلى مقولات «النظرية الروائية»: السارد الأول، الذي يصدر عنه الكلام ويكون بؤرة له، والذي اعتبره المنظر الروسي الكبير ميخائيل باختين شرطاً أساسياً من شروط الرواية. وهناك «الفعل الروائي»، بلغة جورج لوكاتش الذي يضيء حركة الواقع ويتطور بتفاعل شخصيتين وأكثر. فلولا السارد الأول لما كانت «دينا»، أي مصر المكافحة، ولولا هذه الأخيرة، لما انطلق السارد إلى أمكنة القاهرة المتعددة، ودخل إلى «ذواكر» البشر وأرواحهم. وهناك «المتخيّل»، الذي أفرد له الروائي مكاناً واسعاً في مفتتح الرواية.
بيد أن الانتقال إلى بنية الرواية العميقة، يعيد ترتيب المقولات ويمنحها أفقاً ودلالة جديدتين. أراد محمود الورداني، مستذكراً حلم نجيب محفوظ القديم، أن يجعل من الثورة المصرية، في أطوارها الثلاثة، بطلاً روائياً، شخصية روائية هائلة الأبعاد تتوزّع على أمكنة متعددة، وتتوقف طويلاً أمام «شخصيات المكان»، وعلى أزمنة واسعة يتحاور فيها الأحياء الأموات، إذ يمشي نجيب محفوظ في التظاهرات إلى جانب يوسف إدريس، ويصاحبهما بشر مختلفو الأعمار يواجهون غاز «الأمن المركزي» بقطع قطنية مبللة. كان نجيب محفوظ في حوار طويل له مع الراحل اللامع جمال الغيطاني، قد تحدّث عن رغبة قديمة، جاءته وهو يكتب «الثلاثية»، في تجسيد ثورة 1919 في شخصية إنسان هائل، عوضاً عن تجسيدها في أفعال شخصيات متعددة.
ما هجس به محفوظ، ولم يقم به، حاوله الورداني في «شكله الروائي الهجين»، حيث للأمكنة أصوات وللبشر أجنحة ولا اختلاف بين الأحياء الثائرين والأموات الذين ثاروا وواجههم «الأمن» بوسائل الحديد والنار. رسم الروائي شخصية الثورة بالجموع والحشود والجماهير المتدفقة وهتافات الأرصفة وبأنين قديم وآلات مسلحة متناثرة في أرجاء القاهرة جميعاً. لكنه، وهو المشدود إلى تصوّر رومانسي ينطق الشوارع والأضرحة، كما إلى متخيل تربوي يعطي الذاكرة الوطنية ما تشاء من الكلام، عاد وجسّد الثورة بشخصية روائية تشبه المصريين العاديين، ولا تشبههم، أعطاها أجنحة، انتزعها القمع من مكانها اسمها: دينا حيث لأجنحتها المنتزعة من مواقعها آثار من بقع خمرية دامية، تعلن عن أوجاعها إذا جاء المساء. ربما يكون في الصورة، التي اختارها الروائي لغلاف عمله، ما يشبه الأنثى المصرية المجنحة، التي انتُزع جناحاها أكثر من مرة: عينان واسعتان من غموض ورغبة وخوف، وشفتان مزموتان من حزن وعزيمة، وجديلتان ملفوفتان بخيوط ملونة، ورأس كبير، وصدر ناحل تعلوه نقطتان حمراوان، كما لو كان صدراً أنثوياً مؤجلاً. لذا تحضر الأنثى – الثورة في عناوين فصول الرواية: «جناحان من أجل دينا، البحث عن دينا، دينا التي قابلتها من زمان، بيان حالة وجهته لدينا عندما اختفت، أنا ودينا في الطريق إلى الاتحادية، عندما قابلت دينا في وزارة الثقافة، حتى أتوقف عن البحث عن دينا؟…» وما دينا إلى المواطن المصري العادي، الذي يندفع وراء رغبة قديمة، ويعود إلى صبره بعد أن يزهد بالرغبة التي لا تتحقق.
تخلق الأنثى المجنحة فضاء تمتد فيه، متعدد الأمكنة، وفضاء زمنياً ذهب ولا يذهب، ولهذا يتوافد على التظاهرات «الفراعين على عجلاتهم الحربية، بينما الشهداء الملائكة من الشباب والشباب، يطيرون فوق الجميع بأجنحة بيضاء. كان هناك ملاك يشبه الشاب مينا، وآخر له ملامح الشيخ عماد عفت. والفلاحات يتقاطرن وجرارهن ثانية على رؤوسهن. (ص6) تبدو الثورة، التي تخترقها أنثى فقيرة منزوعة الجناحين، كرنفالاً يفتح أزمنة مصر المتعددة على بعضها وفضاء عجائبياً يصاحب الجماهير الثائرة وينطوي بذهابها.
ارتكن الورداني على تصور سياسي – رومانسي، يمثّل روح مصر في امرأة تناسخت في غيرها، أو تناسخ غيرها بها، منذ زمن «الفراعين» القديم إلى زمن الشاعر «نجيب سرور» الذي تصدّع في الزمن الساداتي المنقضي. أقام الروائي نصه على تصوّر سياسي – رومانسي، يحوّل الثائرين إلى علاقات جمالية، ويؤنسن الشوارع والأضرحة.
أيقظت شخصية «دينا» أزمنة مضيئة سابقة، وحاورت أمكنة حاصرها «جنود الأمن المركزي» في عهود متوالية، وأيقظت معها «السارد المسيطر»، الذي اختبرته السجون واختبر جلاديها، وانتهى كهلاً مخذولاً، واسع التجربة وفقير البنية. وإذا كان في الشيخ المقاتل المخذول قبس من دينا، فإن في ملامحه شهادة على جيل ثوري مصري، من سبعينات وثمانينات القرن الماضي، قوّضته تناقضاته قبل أن تجهز عليه أجهزة الأمن، فضاع وتفسّخ. ولعل هذه الشهادة على واقع «أفسده مبارك إفساداً شاملاً»، وأضاف إليه الإخوان «كآبة مديدة»، كما يقول السارد هي التي استحضرت أسماء نسق من المثقفين المصريين: يحيى الطاهر عبدلله وأمل دنقل ولطيفة الزيات والشيخ إمام وصنع الله إبراهيم وأروى صالح، اليسارية التي وضعت كتاب «سرطان الروح» وآثرت الرحيل إلى عالم آخر. أخذت هذه الأخيرة، وهي من جيل محمود الورداني ومعارفه، شكلاً إيقاعياً في الرواية، كما لو كانت تغيب ولا تغيب، تذهب إلى القبر وتبعث في شخصية دينا، التي تناسخت في الفلاحات المصريات وفي شخصية «زينب»، الروائية التي وجّه إليها شاب متمرد «رسائل» تنبعث منها البهجة والألم والسخرية السوداء، صاغها الورداني بنثر لا يخلو من الألق.

عمل تجريبي
أيقظ نجيب محفوظ في الورداني طموحاً واسعاً وصعباً معاً، جسّده في «شوارع لها كرامة، هي سفر التكوين وغايته معاً»، وفي تكامل المرأة – والرمز والكهل المخذول، وفي هواء ناطق يسير فيه الفراعين وشهداء بيض الألبسة، ورسوم على الأرض والملصقات، تغادر مواقعها إذا اشتد النزال واستشرس جنود «الأمن المركزي». يحضر كل هؤلاء إذا حضرت دينا، التي تأتي وتذهب بلا موعد، ويكون لحضورهم شكل الملحمة. أعطى الورداني، في التحديد الأخير، عملاً تجريبياً، إن صح القول. «يودّع» زمناً مضى استمر أكثر من أربعين عاماً بلا تغيير وينتظر زمناً يكمل أزمنة «الثورة الثلاثية»، وله شكل زلزال، مدمّر، كما يوحي الفصل الأخير الذي أخذ عنواناً متأملاً: «قليل من البكاء على الأطلال» جاء فيه: «هل هجرتني دينا؟ وهل فقدتها إلى الأبد؟ وإلى متى سأتجنب الدينا؟ ولماذا يراقبونها»، كما لو كانت دينا المصرية هي الدينا، التي لا يعتقلها أحد.
في الفصل الأخير المشار إليه، يمرّ السارد – الكهل وهو يبحث عن دينا على الأمكنة التالية: بولاق، ضريح سيدي حسن الأنوار، سور مجرى العيون، قلعة صلاح الدين في مواجهة جبل المقطّم. بوابة المتولي، الفورية، جامع المؤيد، سجن الاستئناف، السيدة زينب، شارع محمد علي وعابدين وشارع الأزهر…. ليست الأمكنة في طياتها المختلفة، كما في أزمنتها القديمة والحديثة، إلا الحاضنة التاريخية التي أطلقت دينا التي تساوي الدينا…. مع ذلك فإن السارد الذي أتلفه البحث عن أنثى تتناسخ في غيرها، يرى الأمكنة، بعد «صمت دينا» قد انزاحت عن مواقعها، بسبب طبقات القذارة والوحول والغبار والعفن والمياه الآسنة، وكل ما يعتقل «دينا» ويطلقها معاً.
ليست فكرة الموت والانبعاث جديدة في الرواية المصرية، فقد عالجها قبل عقود ثمانية وأكثر توفيق الحكيم في روايته «عودة الروح»، مع فرق بين زمن قديم مشبع بالأمل وبأطياف «مصر الخالدة»، وزمن راهن قوامه الانتظار و «البكاء على الأطلال»، فلم ينتظر محمد علي باشا، كما جاء في الرواية، شارعاً مليئاً بالعفن والقذارة، «ما الفرق بين الزمنين إلا الفرق بين رواية سهلة أقرب إلى الحكاية السعيدة، ورواية «صعبة» متعدد المستويات والرموز، تدرك أن للأزمنة الحاسمة، التي تدور بين الوعد السعيد والكارثة، رواية أخرى «تتكوّن»، تعرف ما لا تريد، وتلتمس من الاجتهاد الكتابي جديداً رائداً لا يأتي دفعة واحدة.
أعطى محمود الورداني شهادة على قلق الإبداع الروائي، يعرف أن الأشكال الفنية تموت كالبشر والشوارع والأحلام الكبيرة، وأن ما يموت لا يهجر مواقعه بسهولة، مذكّراً، ولو من بعيد، بعمل «الأرجنتيني» إدواردو غاليانو: ذاكرة النار.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى