الفيلم الروائي القصير “العلبة” صرخة ضد الحداثة

خاص ( الجسرة )

* عبد الكريم قادري

شفيق عبد الكريم، مخرج جزائري شاب، من ولاية تبسة، يعيش حاليا في السعودية، سبق وأن شاهدت له قبل سنة من الآن فيلما روائيا قصيرا بعنوان “الطريق”، وهذا عندما كنت عضو بلجنة تحكيم “مهرجان سوق اهراس للأفلام الوثائقية والرواية القصيرة”، بالإضافة إلى مشاهدتي لبعض المقاطع التي كانت عبارة عن بداية مشاريع غير مكتملة، أتذكر بأنني وجهت له ملاحظات حينها، وتقبلها بكل حب، كان يمتلك أدوات الإخراج، لكن رؤيته لم تتضح وقتها، لكن الآن يمكنني أن أقول بأنه استطاع أن يثبُت على أرض صلبة، فهم جيدا ماهية السينما وعمقها. خرجت بهذه الفكرة بعد أن شاهدت فيلمه الجديد “العلبة” 2016، حوالي 5 دقائق 20 ثانية، إذ استطاع من خلال هذه الدقائق المعدودة، أن يزرع في المُشاهد/المتلقّي، العديد من الانفعالات، ( خوف، ترقب، انتظار، حيرة، أمل، يأس، تعاطف، غضب)، لأنه بكل بساطة طوّع كل ما في رصيده من مرجعيات سينمائية، فكرية وتقنية، لصالح الفكرة التي بنى عليها فيلمه، إذ سيّر بذكاء إفرازات النور والظل، نوّع في الكادرات، وزوايا التقاط الصورة، وخلق مونتاجا إيقاعيا، متوازنا، مثلا نرى مشاهد من أعلى لأسفل، والعكس، على الجنب، أي من الزوايا التي لم تتعود عليها عين المشاهد، وقد كانت المُدة الزمنية لكل مشهد سريعة جدا، أي بالكاد تُلم بتفاصيل المشهد حتى ينتقل بك إلى آخر، وكأنّه يُسابق الزمن والفكرة، ليصل إلى البؤرة التي يبحث عنها، المؤثرات جاءت متماشية مع الخوف والترقب وانطفاء واشتعال مصباح السجن، طريقة جر قدمه على الإسفلت، احتكاك الحصى على الجدار، الموسيقى.

%d8%b4%d9%81%d9%8a%d9%823

 
كانت الـ40 ثانية الأولى من الفيلم سريعة، متنوعة، تُوحي بالأفلام التي تناولت الرعب، و”الثيمات” ذات التوجه النفسي والسلوكي، وقد جعلها كمقدمة شاملة للفيلم، تُحضّر المُشاهد لشيء ما، حدث غير مفهوم، فكرة غير تقليدية، بعدها قدم “جنيريك” الفيلم بشكل عادي، لينتقل إلى (العلبة/الغرفة/السجن)، حيث يتواجد شخص ما، رثّ الثياب، وداخل هذا السجن يتنقل من زاوية الغرفة إلى الباب ذو الأعمدة الحديدة، بخطى متثاقلة متعبة، تظهر القرف النفسي والجسدي الذي يعاني منه هذا الشخص، المسجون منذ فترة، وقد أوحى لنا المخرج بهذا من خلال كتابة السجين، وتعليمه عدد الأيام بالنحت بحصى صغيرة على الجدار، وهنا توظيف زمني يوحي بالزمن، وفي نفس الجدار هناك خربشات أخرى تُعلّم عدد الأيام، تُوحي بأن هناك من سبقه إلى هذا المكان، حيث كانت طريقة الكتابة مختلفة على طريقة السجين الحالي، بعدها سمع صوت فتح الباب، استجاب وخرج، وبينما هو على السلالم رأى رسوما على الجدار، عبارة عن علامة فايس بوك مثلا، وأظن أيضا بأن هناك علامة انستغرام أو عين آلة تصوير (توحدي بالزمن الحديث/الحداثة/التقنية/التكنولوجيا)، تصرعه هذه الصورة وكأنّه يقرر العودة إلى الوراء، يرجع إلى ما كان فيه، خير له أن يواجه هذه الحداثة القاتلة، لكنه في الأخير يقرر مواصلة طريقه، يخرج ويواجه الحياة من جديد، بعدها يأتي مشهد آخر، شخص يركن سيارة، يخرج منها، تصله رسالة على هاتفه، يفتح ويختفي، بعدها يظهر في الغرفة كما كان الأول.
فيلم “العلبة” لعبة إخراجية ذكية أجادها المخرج شفيق عبد الكريم، استطاع أن يخلق لغة في فيلمه دون أن يلجأ إلى الحوار، آي خلق لغة سينمائية خاصة بفيلمه.
*سكرتير تحرير مجلة السينمائي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى