غالويتش في السليمانية

عباس بيضون

حينما وصلنا أنا وابنتي في نهاية الرحلة إلى مطار أربيل وخرجنا إلى فنائه الضيق لم نجد أحداً في انتظارنا. كنا صادفنا على الطريق أشخاصاً يحملون بطاقات بأسماء لم نكن بينها، كان الفناء محاطاً بجدار حجري توزعت عليه حجيرات ضيقة. لاح لي أن إحداها تحوي أجهزة هواتف محمولة. كنت أحمل هاتفي الذي لا يعمل هنا. تذكّرت أن فيه الرقم الوحيد الذي أعرفه في هذا المكان الذي يتكلّمون فيه لغة لا أفهمها، وأمامي سفر إلى السليمانية التي لا أعرف كم تبعد. مع ذلك، لم أكن قد فقدت هدوئي، حين توجّهت إلى الشاب الذي يجلس في حجرة الهواتف وكلمته بالعربية. طلبت منه أن يشغل لي هاتفي لأتصل بالشخص الوحيد الذي أعرفه. لم يُجِب، لكنه فهم. أخذ التلفون مني وفي دقائق ردّه إليّ. توقعت أن يكون قد فشل لكن حركة منه جعلتني أبحث عن الرقم الذي وجدت أنه يعمل. قلت لسامي إنني لم أجد السائق. أكد لي أنه أرسله. واحد كان يقف في حجيرته المحاذية أخذ التلفون مني وكلم سامي بالكردية، فهمت أنه سأله عن رقم السائق، أعطاه له فكلم السائق من تلفونه. خرج وأشار إلينا لنتبعه. كان هناك باص طويل ضيق من باصات المطار خارج محيطه. أوصلنا إليه وقال إن علينا أن نصل إلى القاعة الثانية. لم أعرف متى أنزل من الباص وفي أي محطة عليّ أن أنزل. سألت بالعربية. لم يكونوا كلهم جاهلين العربية. انها متداولة بطريقة ما وهي مألوفة لهم. أجاب أحدهم بالعربية أن الباص يصل فقط إلى القاعة الثانية. وصلنا إلى باحة ووجدنا الناس يتوجّهون إلى باب مفتوح عليها فتبعناهم. وصلت فنهض أحدهم ما إن رآني. لم يكن السائق، كان رستم محمود، الكردي الذي نشرنا له في «السفير» غير مرّة. كنت أحسب أنه في باريس، لكنه الآن في أربيل. مازحته فاقترب منا رجل يرتدي طقماً كحلياً وعانقني وفي لحظة حضر طفل يحمل باقة ورد قدّمها لي. صعدنا مع الرجل ورفيق له إلى جيب كان في الخارج. كلّمني الرجل بعربية صحيحة أظن أن رفيقه الشاب ليس مثله فيها. قال إن المشوار إلى السليمانية يحتاج إلى ثلاث ساعات. على الطريق فهمت أن له مجموعتي شعر وأنه يدرس الكردية وأنه في جهاز مهرجان السليمانية. على الطريق كلّمه واحد في الهاتف. قال لي إنه يريد الكلام معي. أعطاني التلفون فسمعت صوتاً يقول إنه نائب رئيس لجنة المهرجان وأحب أن يرحّب بي وأنا على الطريق قبل الوصول إلى السليمانية.
كانت السليمانية مضاءة بمصابيح كهربائية وقضبان نيون متعددة الألوان. السليمانية بدت هكذا مبهرجة مزوقة. الفندق الذي وصلنا إليه كان فناؤه الأرضي شاسعاً. وجدت سامي في انتظاري بلحية لا أذكر إذا كان يحملها عندما زارني في «السفير». سامي داود كردي من سوريا يقرأ بلغات عدة. مثقف حديث، نوع من انتروبولوجي كردي يكتب بالعربية. صحبني سامي طوال فترة وجودي. عرّفني إلى آخرين، عبدالله برزنجي الذي سبق أن ترجم مختارات من شعري إلى الكردية هو الآخر أسنّ من سامي لكنه قليل الكلام، هو الآخر يعرف العربية ويكتب بها شعراً إلى جانب الفارسية والتركية وبالطبع الكردية. كان عليّ أن أتعرّف على آخرين احتضنوني بكل معنى الكلمة، كانوا باستمرار يعرضون مساعدتهم، قد أذكر هنا إيمان الذي سبق له أن تسمم من الكيماوي الذي قصفت به حلبجة، فتى يفني وقته بالقراءة ويذكر لك بين الحين والآخر اسماً جديداً.
كانت قاعة المهرجان الثقافي واسعة، كما هي الأماكن هنا تتسع لحوالي 800 شخص. يوم الافتتاح كانت ملأى وستبقى كذلك تقريباً طوال المهرجان. العرب قليلون في المهرجان، بالإضافة إليّ لم أصادف سوى عراقيين مالك المطلبي وياسين النصير، لكن أكراد فارس عديدون، الأرمن كانوا ضيوف المهرجان الرسميين في محاولة للخروج من تاريخ دموي بين الشعبين. الأكراد مشتبهون بأنهم شاركوا في مجازر الأرمن، تهمة لم ينفها ملا بختيار راعي المهرجان والبارز في الاتحاد الوطني الحاكم في السليمانية، بل دعا إلى تجاوزها، إذ لا يجوز أن يحمل الأحفاد البعيدون ذنوب أجدادهم. ملا بختيار لا أعرف تماماً رقمه في الاتحاد الوطني، لكنه من أركانه، اختياره لرعاية المهرجان في محله، فالرجل يجمع إلى حنكته السياسية ثقافة متعددة وقدرة واضحة على الخطابة إلى كونه كاتباً. هناك اللطف الكردي أيضاً فقد دعاني طوال المهرجان إلى طاولته للطعام. يمكننا أن نتكلم عن رزانة وحنكة. سألته عن معرفته بصدام حسين فقال إنه دقيق ورزين، ليس مثقفاً لكنه مطلع جيد على داخليات السياسة العالمية والأوضاع الاقتصادية. لم يبتذل الكلام عن خصم قديم ولم يكن خفيفاً أو حاقداً في تقييمه.
الريح القارصة تعوي ليل نهار. قالوا هنا ان هذه هي الحال من يومين. صعدنا في سيارة سامي إلى الجبل الذي يُطلّ على المدينة، أوقف سامي سيارته في مكان مشرف لكن الريح المجنونة كانت تهزّ السيارة، الأماكن واسعة، المطاعم ملاعب، القاعات مديدة. المدينة ومثلها أربيل تنمو بسرعة. عمارات وأحياناً ناطحات سحاب ومولات، الأسماء أغلبها بالحرف اللاتيني. كردية كردستان العراق تكتب بالألفباء العربية، لكن الجيل الجديد منذ استقلال كردستان أو شبه الاستقلال لا يعرف العربية التي استبدلت بالانكليزية، شيء من السليمانية يشبه بيروت، معمار وأضواء، لكن الطعام المتنوع عادة يكاد يكون هو نفسه، في كل وقت لحم. مشويات من لحم الخرفان والكفتة والدجاج، يضاف إلى ذلك مقبلات لكنها المقبلات نفسها كما هو الشواء نفسه. الحمامات هي غالباً وفي بيوت ومطاعم حديثة بدون مقعده.
الفندق الذي نزلنا فيه، وهو بخمس نجوم، الغرف فيه شقق من غرفة للنوم وصالون ومائدة كبيرة للطعام. هناك مساحات واسعة كما هو الأمر في كل مكان، مساحات واسعة وأدوات حديثة، لكنك مع ذلك تشعر أن عطلاً ما أو قلة دراية في الحمام والمكيّف. حداثة كأنها لم تستوعب تماماً ولم تتحوّل بعد إلى عادات.
في افتتاح المهرجان قرأت شعراً، وكنت مع العراقيين مالك المطلبي وياسين النصير في ندوة حول الهوية. لكنهم أي المنظمون في بادرة تكريم، دعوا إلى مطعم عدداً من الأشخاص بقصد أن أقرأ في جوّ حميم ومثقف وملم بالعربية. حضر المدعوّون الذين توافدوا بالتدريج، لقد جاؤوا أزواجاً، كان في هذا وفي أزيائهم وفي حركاتهم ما يدل على انهم ينتمون إلى طبقة جديدة صاعدة. المطعم نفسه لم يكن شبيها بالمطاعم التي ارتدناها. الشراب أولاً وليس من شواء بل نقل وفاكهة ثم قطع بيتزا. علمت أن أسعاره غالية، ان ثمن «الطبقة» لا الطعام الذي كان زهيداً. كنا في أول الأوربة. ملأوا المكان وتفرقوا جماعات على الطاولات. وبدأوا الأكل والشرب والحديث وحين نهضت إلى الميكروفون لأقرأ، استمروا في حديثهم وطعامهم مما جعلني أختصر القراءة وأكتفي بنص واحد تعجلت الوصول إلى نهايته. كان عليّ بعد ذلك أن أطوي الصفحات، وأعود إلى طاولتي مع سامي وابنتي لآكل أنا أيضاً وأتحدّث.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى