قصرٌ السكاكيني لا يُفتَح بابُه إلا للتصوير السينمائي

رحاب عليوة

عد سكون طويل، لف القصر المستقر في مكانه منذ 119 سنة، تبدَّل خلالها لونُ طلائه، وتحطم كثير من مقتنياته، وطُمست نقوش كانت تزين جدرانه، التفَّ حوله أخيراً أطفال الحي السكني المحيط به، وحاصرته أعين المارة التي كثيراً ما تجاهلته.
كان قصر السكاكيني الواقع في الحي المسمى باسمه وسط القاهرة على موعد مع أول يوم تصوير لفيلم «هروب اضطراري» من بطولة أحمد السقا وغادة عادل وإخراج أحمد خالد موسى وإنتاج ندى السبكي. فُتحت أبواب القصر للمرة الأولى منذ سنوات. استمر التصوير لمدة 24 الساعة، وسط حشد من الفضوليين، بعضهم ينتظر نجوم العمل لالتقاط صور تذكارية، وآخرون يختلسون النظر إلى ما خلف أسوار ذلك القصر المغلق في وجههم بأمر من وزارة الآثار.
حبيب «بيك» السكاكيني، هكذا حمل الشاب السوري القادم إلى مصر بعمر الـ16 بصحبة عائلته، لقبَ «البكوية» العثماني، قبل أن يحمل اسمه قصرٌ لا يزال إلى الآن أحد أهم التحف المعمارية في مصر. اللقب والقصر كانا من جملة عطايا كثيرة أنعم بها الخديوي إسماعيل على الشاب السوري الذي قرر مع قدومه إلى مصر ألا يحمل من مهنة والده، «صناعة السكاكين والسيوف»، سوى اللقب، ليمارس هندسة المعمار.
عمل السكاكيني في مشروع حفر قناة السويس مقابل 4 فرنكات يومياً، إلى أن انتشر مرض بين العمال تسببه الفئران، فتفتق ذهنه عن الاستعانة بسلاح القطط. توجَّه السكاكيني إلى القاهرة ليجلب آلافاً من القطط الجائعة وعاد بها إلى منطقة العمل في مشروع قناة السويس. نجحت الفكرة، وفي غضون أيام التهمت القطط الجائعة الفئران. علم الخديوي بالأمر، فقرَّب السكاكيني، وأوكل إليه الإشراف على تشييد دار الأوبرا المصرية، شرط أن يتم ذلك العمل في غضون 90 يوماً. لجأ السكاكيني إلى نظام العمل لثلاث ورديات، في النهار والليل، مدة كل منها ثماني ساعات، فأنجز المهمة في الوقت المحدد.
هنا بدأت العطايا تُغدق على الشاب، وأصبح مسؤولاً عن أعمال المعمار كافة في مصر، ومنحه الخديوي لقب «البكوية» وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، ليصبح أصغر حاملي ذلك اللقب. وفي تلك المناسبة سافر السكاكيني وزوجته في رحلة ترفيهية قصيرة إلى إيطاليا، ليرى خلالها ذلك الذي سيصبح قصره في ما بعد. إذ أوكل السكاكيني إلى الشركة الإيطالية ذاتها التي دشنت القصر مهمة نسخِه في القاهرة، على قطعة أرض مساحتها 2698 متراً مربعاً، منحها له الخديوي.
وصرح أحد أعضاء فريق إنتاج فيلم «هروب اضطراري» لـ «الحياة»، خلال كواليس يوم التصوير الأول، بأن القصر يوظف داخل الفيلم كسجنٍ، يهرب منه أربعة سجناء متهمين بقتل رجل أعمال. واجهات القصر مطلية باللون الرمادي بقرار من وزارة الآثار، فاختفى لونها الأبيض، ويبدو أن ذلك هو ما يغري صناع الأفلام بتصويره كـ «سجن» أو مخفر شرطة. فعل ذلك المخرج الراحل يوسف شاهين لدى تصويره فيلم «هي فوضى».
ويقول أحد سكان الحي إن شاهين صوَّر كثيراً من مشاهد الفيلم داخل القصر، ومنها مشهد مشاجرة نسائية، وعند مدخله جرى تصوير أحد أهم مشاهد الفيلم، وهو مشهد تظاهرة ضد عنف الشرطة، تنتهي باقتحام القصر- المخفر، وتحرير المحتجزين فيه.
يتوارث سكان المنطقة قصة بناء قصر السكاكيني جيلاً بعد جيل، بدءاً من قصة الفئران، ومغالطات في موقع النسخة الثانية من القصر والمهندس الذي أشرف عليه. بُني قصر السكاكيني على الطراز المعماري الإيطالي، لتزينه تماثيل كثيرة، منها تمثال نصفي لحبيب السكاكيني عند مدخله، وتمثالان من المرمر على جانبي المدخل، وتمثال فتاة يسمى «درة التاج» وهو مكرر في أكثر من موضع. القصر من خمسة طوابق، تضم 50 غرفة، وله بهو بثمانية مداخل إلى الغرف وصالة الطعام والاجتماعات. البدروم، الذي كان الحجز السري في فيلم «هي فوضى»، ينخفض ست درجات عن الأرض، بثلاث قاعات متسعة، وأربع صالات ودورات مياه وغرفتين، وكان قديماً مخصصاً للخدم.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى