مهرجان كلاويز الكردستاني يحتفي بالثقافة الارمنية

بانة بيضون

فـــي مدينة السليمانية في كردستان العراق، يستحضر الزائــــر مـــراراً قصيدة محمود درويش «ليس للكـــردي ســــوى الريح»، من وقع الريح العاصفة هنا، والتي تعرف محلـــيــاً بالكـــردية «بل ره شه باه» (الرياح السوداء). مــع الوقـــت يتآلف الزائر مـــع ديناميكــية الريح التــــي تتقـــاطع وإيقـــاع الحــركة الهادىء في المدينة. لكن هـــذا الهدوء أو ربما الثبات هو دائماً في طور التأهب. فلولا التنظـــيم الأمنـــي القــوي، لما كان ممكناً لهذه المدينة وما تبـــقى من كردستان العراق أن تظلّ بمنأى عن الخراب التي آلت إليه المنطقة، ومشروع الغزو الداعشي.
الريح والجبال كانت دائماً ملجأ الأكراد والمقاتلين الذين عاشوا فيها وسبباً في حمايتهم، ولو في شكل جزئي من مشروع الإبادة الجماعية الذي شرع فيه صدام حسين في حملة الأنفال وإبان القصف الكيماوي لحلبجة وغيرها من الفظائع. الطبيعة هنا جزء من هوية المكان وأهله وتاريخه واستمراريته، ما يشعرك قسراً بوجوب احترامها. ومن هذه البيئة خرج مهرجان «كلاويز» الذي احتفى أخيراً بدورته العشرين (تأسس عام ١٩٩٦)، ويعود اسم المهرجان إلى الروائي الكردي الشهير إبراهيم أحمد الذي أصدر مجلة «كلاويز» في أربعينات القرن العشرين في بغداد. هذا المهرجان أيضاً جزء من استمرارية المدينة التي تطمح إلى الانفتاح على ثقافات أخرى، بحيث يلعب إلى حد ما دور الوسيط ما بين الثقافي والسياسي في البحث في الأزمات الراهنة أو التاريخية. وقد تكون تلك سمة في الحياة الثقافية في السليمانية التي تتماشى بموازاة الحياة السياسية، في مساحات المدينة الكبيرة وفي القفزة العمرانية التي شهدتها والهوة ما بين القديم والجديد والتقليدي وما هو أكثر انفتاحاً والهويات الكردية المختلفة التي تتجانس فيها من سورية وإيرانية وعراقية ضمن مزيح ينجح، على رغم ذلك، في إيجاد تركيبة خاصة به.

في كلمة الافتتاح، أشار الملا بختيار، المشرف العام على المهرجان ومسؤول الهيئة العاملة في المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني، أنه لا يمر يوم في تركيا من دون زج مئة إلى مئتي مفكر في السجون، مطلقاً على هذه الدورة اسم صلاح الدين دميرتاش ورفاقه المعتقلين. وكان الأرمن هم ضيوف شرف المهرجان هذه الدورة. نُظمت ضمن المهرجان جلستان تتناولان العلاقة ما بين الشعبين الذي يجمع بينهما تاريخ مشترك من القتل والشتات والتهجير. لكنّ مسألة الإبادة الأرمنية ودور الأكراد فيها تظلّ نقطة شائكة، وقد تطرق إليها المهرجان في ندواته ما بين الباحثين الأرمن والأكراد.
وعلى رغم اختلاف وجهات النظر المعروضة من الطرفين، جاء الموقف العام داعماً لفكرة وجوب الإقرار بالمشاركة الكردية في الإبادة الأرمنية بصرف النظر عن قسريتها ودوافعها ومبرراتها ورغبتها في تحسين العلاقات والتبادل الثقافي ما بين الشعبين الأرمني والكردي.
وإلى جانب الضيوف الأرمن، من باحثين وأكاديميين وشعراء، استضاف المهرجان أيضاً الشاعر عباس بيضون الذي ألقى قصيدة في افتتاحية المهرجان. وجمعت بينه وبين الشاعر والناقد مالك المطلبي والناقد ياسين النصير جلسة حوارية بعنوان «مشكلة الهوية، وعي الذات في مرآة الآخر»، أدارها الباحث سامي داوود. وفي مداخلة له عن «الهوية والعنف في الشعر العربي»، تحدث عباس بيضون عن مسألة الهوية وارتباطها بالعنف منذ الشعر الجاهلي الذي بنيت فيه الهوية على مفهوم الغزو والحروب الزائفة وصولاً إلى العباسي والأموي والعصر الحديث الموسوم بالاستعمار الغربي وسقوط فلسطين، حيث غدت الهوية مقترنة بمفهوم الحرب وحدها، فهو الغرض الأساسي منها وهذا ما سمح لطغم عسكرية أن تسيطر على السلطة، غير أنه استثنى المتنبي الذي كان في شعره يعرف كيف يصل ما بين العنف والهوية.
أما مداخلة مالك المطلبي فتطرقت إلى «الهوية الثقافية والاحتماء من الشك». شرح فيها معنى الهوية الثقافية ضمن محور المركز والهامش الذي فرضه العصر ما بعد الكولونيالي، ليصل بنا إلى أن الهوية في العالم العربي باتت اليوم أشبه بطوطم القبيلة. بينما انطلق الناقد ياسين النصير في بحثه «المكان المتخيل وإيديوليجيا الهوية والذات»، من مفهوم المكان الحقيقي والمكان المتخيل الذي لا تكتمل من دونه عملية بناء الهوية. وقارن ما بين إسرائيل على سبيل المثل التي تأسست هويتها كلها على مفهوم المكان المتخيل، أو الوطن المتخيل لليهود في التوراة فيما المكان الحقيقي غير موجود. وفي ما يخص الحالة الكردية، فإنّ المكان موجود، لكنّ الوطن المتخيل هو الغائب، وتلك الصورة التي يجب العمل على بنائها. ويعيدنا مفهوم الوطن المتخيل إلى الشاعرة الإيرانية بيتا ملكوتي المقيمة في براغ، إحدى ضيوف المهرجان هذه السنة، الذي منذ تأسيسه يتركز حول ثلاثة محاور: الأدب الكردي، الفارسي، العربي.
في قصيدتها التي كتبتها إلى ابنها الحديث الولادة، تقول ملكوتي: «أنا وأنت عبرنا الحدود/ وطني تبدأ حدوده من أصابعك/ وطنك تبدأ حدوده من انحناءات عظم كتفي/ ليس لدينا وطن/ بدلاً من ذلك لدينا حصانان خشبيان/ لنقفز بهما فوق الكوابيس/ بلا جواز سفر»، ثم تكمل «ابني وطنك ليس طهران/ بل بداية الريح / طهران ليست سوى تصميم الثياب الذي أرتديه للسهرات / بدلاً من طهران / لدينا قبر كافكا قريب منا / في مطلع العام / سنأخذ زهور القوليوس إلى قبره / ليس هنالك أقارب هنا/ لكنّ تشيخوف سيأتي لزيارتنا، وسيهديك كل بساتين الكرز». ومن بين الشعراء الأكراد المشاركين، حاز الشاعر إدريس علي الجائزة الأولى في مسابقة «كلاويز للشعر» عن قصيدته «عداد الهموم»: «لأشفق بقلب متصدع/ على حالتي البائسة هذه/ لأعرف أن عمر كذب الشاعر جد قصير/ لئلا أنصرف على أنغام الشويعر/ إلى تذكر نفسي/ في صفوف طويلة تنتظر استلام مرتب الشهيد/ كحلم شوهد تواً/ كتساقط عروة من قميص الشهيد» (الترجمة أنجزها الشاعر والمترجم الكردي عبدالله طاهر البرزنجي).

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى