جُروح الذات في رواية «نارنجة» للعمانية جوخة الحارثي

محمد زروق

«نارنجة» رواية حديثة صدرت عن دار الآداب للعمانية جوخة الحارثي، وهي روايةٌ قائمةٌ على بعْثِ شخصيّة طالبة عُمانيّة يستقرّ بها المقام في بريطانيا للدراسة، ومنه تنظر في جدّتها استذكارا، وفي ما رشّحته من صحبها الباكستانيين حضورا، وفي ذاتها تبئيرا، فيتولّد القصص الروائيّ من ثلاث بؤر رئيسة، تُولّد الحكايا وتقدّ عالم الرواية، بؤرة الجدّة، المُستَرجعة المُتَكرّرة، وهي بؤرة محفوفة بعالم من الأحداث والشخصيّات، تُضيءُ حالاّ من البلاد والعباد أواسطَ القرن العشرين، وبؤرة الصديقة الباكستانية، وحالها مع نفسها وعائلتها وأختها المرافقة لها، المتّخذة لها زوجا يختلف عن منزلتها الاجتماعية، وبؤرة الذات الراوية، أساس الحكاية، وعينها الراقبة ولسانها الحاكي.
تنشدّ الرواية إلى أصلٍ واحد، ذاتٍ راوية واحدة، تستعيد من الزمن ماضيه، وتَرْقب منه حَالَّهُ، وتُقيم من الخيال شخصيّات وعلاقات دالّة. فتُقيمُ الراوية شبكة شائكة من الشخصيّات، ودوائر من الأحداث معزولة هي واصلتها، وتختلف الأهواءُ غير أنّ الذات الراوية تُجمّع هذا المختلف وتُحسنُ إدارته. فأيّ عينٍ هاته القادرة على تبئير ثلاث بُؤر دلاليّة لكلّ منها مجاله الخاصّ وعالمه، وعاداته وفعاله وتاريخه ومعتقداته، باستعمال خيطٍ ناظم متى تفكّك تفكّك عُقد الرواية وتناثر نظمه، تلك روايةٌ واحدٌ راويها وعدد بُؤرُها ومنابتها، تنشدُّ إلى راويةٍ واحدةٍ، مِزاجُها مفارقٌ لأمزجةِ شخصيّاتها.
أنثى راوية، تُطابقُ في الجنس اسما موجودا في عتبة الكتاب، محيلا إلى الكائن العينيّ، وتُطابقُ في العقل صفةً، من حيثُ صفاء اللّغة ورقيّها، أنثى عالمة، عارفة، مدركة لقوانين اللّغة وطُرق إجرائها، تخلق فضاءً من الحكاية متنوّعا، وشخصيّات لا تتشقَّقُ عنها بالضرورة، وإنّما هي مختلفة عنها، فكيف لهواها أن يُوَافق أهواءً وأمزجة وهي سليلة الحكاية، تَمتح من جذورها لا من فروعها، وتهزّ من الشجرة، من «النارنجة» غُصنا فيسّاقط عليها حكْيا زكيّا؟
حكايات متعدّدة تتولّد عن ذات فرد، هي ربّة الرواية، وعُقدتها وعمادها، «زهور» ليست شخصيّةً نامية، بل هي رابط متفرّق الحكايا عبر الأزمان والأوطان، وهي باعثتها، تحكي ما مضى ممّا شهدته وممّا لم تشهده، وما زامنها من أحداث، عبر الشهادة وعبر الرواية، فزهور الراوية على امتلاكها خيوط الرواية تترك للشخصيّات مجالا للحديث، للرواية، فتُنطقُ جدّتها، وتُنطق سرور، فالرواية تُحْكى من مصدرين أولهما سرور وثانيهما الشخصيّات التي بعثتها وأنطقتها.
«نارنجة» شجرة الجدّة، منبع الحكاية ومصدرها، تَرْقُبُها عينٌ أمينة عليها في السرد، مُنفَلتةٌ عنها في الواقع، «لم تملك جدّتي حقلها الصغير الخاصّ، ولم تفلحه، عاشت ثمانين سنة أو أكثر، وماتت قبل أن يكون لها أيّ شيء تملكه على وجه البسيطة. كانت يدها خضراء، فزرعت كلّ الليمون والنارنج في حوش بيتنا، وكانت نارنجة بعينها هي الأحبّ إليها، لم تذبل أيّ شجرة زرعتها واعتنت بها، لكنّه كان بيتنا وحوشنا وشجرنا، كانت تعيش معنا فقط، لا تملك البيت ولا الشجر ولا حتّى نحن، فلم نكن أحفادها في الحقيقة».
كيف لعوالم أن تتداخل وتتضافر وتُضرَب في آلة واحدة وتخرج علينا صفيَّةً نقيّةً لا تشوبها شائبة، تأخذ من الباكستان شخصيّات تُديرها، وتُؤسّس لها عالما يترابطُ ويتماشج ليقدّ سبيلا في الحكاية معزولا عن أرض عمان وخلائقها وأجناسها وثقافتها، وتأخذ من المحلّي، صورة الجدّة، وما يُحيط بها من فضاءات في السرد تتولّد تناسلا، لتصوير حال البلاد والعباد، في أواسط القرن العشرين.
الجدّة عينٌ ذكيّة، أحسنت الذات الراوية تسخيرها، وتنقّلت بها إلى التاريخ الحديث في عُمان، لترى الحياة، وعلائق البشر، ولتُضيء من الماضي القريب رأيا ورؤيةً، ولتُداخل من نفوس البشر الذين أعرض عنهم التاريخ أبعادا ورؤى
شخصيّاتٌ تفعلُ ويُفعَلُ بها، تتحقّق وجودا وكونا ولغةً، فإذا هي من رماد الكون تتكوّرُ وتكبُر، إلاّ أنّها حمّالة أرزاء وأفكار ورؤى. فلولا السرد لضاعت تواريخ وأصوات مطحونة لا يَرصُد أساها إلاّ فَطنٌ من الروائيين، ولتاهت أخيلةٌ وأوهامٌ وأمزجة، يلتقطها من ملك عين الروائيّ ولسانه.
أحيانا نعتقد أنّنا نحن الكائنات التي قدّت من الورق وأنّ شخصيّات الرواية هي الحقّ الذي لا يأتيه الزيفُ، أنّا نحنُ «الكائنات بلا أحشاء» وهي الكائنات المملوءة أحشاء وأفئدة. شخصيّة «سرور» الباكستانيّة مرتكَزٌ مهم في الرواية فقد استدعت أختها «كحل» وزوجها العرفي «عمران» وعائلتَها وفتّحت من الحكاية سُبُلا وفرّخت من الشخصيّات عددا، وأثرت الحكاية. فهي فرعُ الشجرة وماسك أغصانها، هي الذات الراوية، الرائيّة، على الرغم من تعدّد الأصوات وتنوّعها.
تُبْطِنُ الذاتُ الراوية عِشْقها لعمران، هو عشقٌ لا يظهر على سطح الرواية، وإنّما هو مبثوثٌ في النظرة، في الموقف، في الهوى، يستشفّه القارئ، ولكنّ الراوية لا تُعلنه وإن أبدَتْه. «مددت يدي لعمران، فرأيت إبهامي مُشوّها وأسود، خطوتُ نحوه فوجدت قفزتي قد اتّسعت هربا من نداءات جدّتي في عزلتها، وجدت رأسي يدور في الثلوج، ويرتطم في صدر عمران، لكنّ صدره قُدّ من صخر، فتحطّم رأسي، تفتّت في الشارع، فصنع منه الأولاد رجل الثلج، رأيت عينيّ في عينيه الثلجيّتين، وأنفي المهشّم في جزرة وجهه»، «صرعت الحمّى عمران فلفّني الجزع وكحل»، فتتماهى العلاقات، وتُخفي الشخصيّة الراويةُ عشقا لعمران، لا تُفصّل مظاهره، وإنّما هو ظاهرٌ من وفرة الحديث عنه، ومن عمق رصد علاقته الزوجيّة والعشقيّة بأخت صديقتها الباكستانيّة.
لم تخرج جوخة الحارثي في روايتها عن جلباب الماضي/ التاريخ العماني، وإن فتحت كوّة على الحضارة الباكستانيّة، وعلى شخصيّات تأتي من عالم قريب وغريب. ومن مفارقة الرواية أنّ اللّقاء يأتي في أرض ثالثة هي بريطانيا، لتتحقّق هذه البؤر الروائيّة الثلاث.
وتنبني الشخصيّات في تعدّدها وتفارقها وتجامعها على جروح وكلوم بعضها مكتوم وبعضها منطلق وظاهرٌ، هي جُروح الماضي تمثّلها الجدّة، وهي جروح الحاضر في حاضر حفيدتها الممزّقة بين الماضي والآنيّ، هي جروح سرور الباكستانية، وأختها في صلتها بعمران الذي تحدّدت به حياتها.
من كلّ الجهات يهطل السرد، مخابئ الحكاية وفيرة وزادها لا ينضب، في لغةٍ عالمةٍ عارفةٍ لا يأتيها الباطل من أيّ جنب من جنباتها. عينٌ في السرد ذكيّة تُنَقِّل هواها السرديّ من قديمٍ إلى حادثٍ، ومن ماضٍ إلى حاضرٍ، ومن ذاتيّ يُرافقُ الصبى والطفولة وما قبل الولادة، إلى رفقة الأجانب ومداخلة حياتهم واستحضار ماضيهم. حيوات ثريّة تُحسن الراوية إدارتها وجمعها، وحسبُك من الرواية قدرتها على جمع ما لا يجتمع، وحسن تنقّلها في الأزمان دون حواجز ولا عوائق.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى