‘أحلام محطمة’ ترصد وقائع تاريخية بين تركيا العثمانية واليونان

محمد الحمامصي
تدور أحداث رواية “أحلام محطمة” للكاتب التركي بيولنت سينوكاك التي صدرت أخيرا عن دار العربي للنشر بترجمة محمد أسامة في زمنين مختلفين متوازيين. الأول في تركيا، والثاني في اليونان أيَّام الحكم العثماني. حيث تروي سيرة أسرة “محمود بك” قائد قلعة “سالونيكا” لتتبع وقائع تاريخية، حيث ترصد حادثة اغتيال قنصليين في سالونيكا عام 1876، وتبعات الحادثة، وتصف العلاقة بين المسلمين والمسيحيين والتوتر الذي كان سائدًا بين الفريقين.

كما توجد قصة الفتاة “ستيفانا” التي تعتنق الإسلام، وتهرب من أهلها بمساعدة بعض السكان المحليين حتى تستطيع اللحاق بحبيبها الغني الأكبر منها سنًا. عندما يصل القطار الذي يحملها إلى سالونيكا، تعلق في شجار عنيف بين المسلمين والمسيحيين الذي يعيشون في المدينة. تقوم مجموعة من اليونانيين بخطفها وإرسالها أولًا إلى القنصلية الأميركية، ثم يتم نقلها إلى أحد رجال الأعمال اليونان. في الوقت نفسه، يعبر الكثيرون من المسلمين عن غضبهم لمَّا ظنُّوه اعتداءً على فتاة مسلمة، فيسيرون في مظاهرات عنيفة، بدون أن يلتفتوا لحقيقة أن “ستيفانا” قد أُطلق سراحها بالفعل، وهكذا يقوم المتظاهرون بقتل القنصل الألماني والفرنسي اللذين جاءا إلى المسجد في محاولة منهما لتهدئة الجموع الغاضبة.

في الزمن الآخر، الذي يبدأ عام 1920 في إسطنبول، نتعرف على “تحسين بيك”، الذي كان حاكمًا للعديد من المقاطعات، والذي أصبح فيما بعد عضوًا بالبرلمان. يشهد احتلال البريطانيين للبرلمان وقبضهم على أعضائه، وفي الليلة نفسها يهاجمون بيته ويلقون القبض عليه وهو في ملابس نومه. يحاكمونه بتهمة مجرم حرب لدوره في تهجير الأرمن أثناء فترة ولايته لمقاطعة “إرزوروم”، وهكذا يتم نفيه إلى مالطا، ولكنه ينجح هو وآخرون ممن تم نفيهم في الهروب.

• من أجواء الرواية:

ليماسول/إفديم – 20 يوليو 1928

عجزت “بمبي” عن النوم حتى الصباح. عانت طوال الليل من أفكار تعصف بذهنها. كان كل شيء يبدو أمام عينيها غريبًا، الدعوة إلى زفاف عائلة “روسوس”، والسفر من القرية إلى هناك، والمحادثة الدافئة بين أمها و”روسوس”، واستضافة آل “روسوس” لهم، كل شيء كان غريبًا.

أزاحت الستائر ورأت الإفطار يوضع على المنضدة أسفل التعريشة. فأيقظت زوجها قائلة:

– إنهم يقدمون الإفطار في الحديقة. خذ ما يلزمك من الوقت للاستعداد انزل. سأذهب لأخبر أمي ثم أعود.

كادت تتعثر في طريقها إلى حجرة أمها. هناك طرقت الباب برفق، ودخلت بعد سماعها إذن والدتها.

– صباح الخير يا أمي.

– صباح الخير. ماذا هناك؟

– لقد أطللت عبر النافذة، يبدو أن الخدم بدؤوا في إعداد مائدة الإفطار في الحديقة.

– أوه، لا، لقد تسببنا لهم في الإزعاج.

– هذا ما لا أفهمه يا أمي. ما الذي جاء بنا إلى هنا؟ أخبريني بما يجري أرجوكِ.

– ظننتكِ أتيتِ لإخباري بأمر الإفطار.

– أجل، لكني أريد منك إخباري ما سبب كل هذه الألفة. لو لم يكن السيد “روسوس” متزوجًا لأثار ذلك في نفسي بعض الشكوك.

– كيف تجرؤين؟ عار عليكِ، عار عليكِ! كيف تخاطبين والدتك هكذا!

– إذا أخبريني بما يجري.

– حسنًا، أعدك أن أخبرك بكل شيء فور عودتنا إلى القرية. لكن ليس الآن، ليس هنا.

– لا، أرجوك أخبريني الآن.

– موافقة، لكني لا أظن ترك الناس منتظرين بالأسفل تصرفًا لائقًا.

– لم أر سوى الخدم في الحديقة. لا أظن السيد “روسوس” وزوجته قد استيقظا بعد. يمكننا النزول حينما يرسلون في طلبنا.

أدركت “زهرة خاتون” أنها لا تملك خيارًا سوى سرد القصة كاملة. رغم الغصة التي شعرت بها في حلقها عندما حاولت التكلم.

– هيا يا أمي، توقفي عن إضاعة الوقت وابدئي الحديث.

شعرت “زهرة خاتون” للمرة الثانية بغصة في حلقها، لكنها بدأت في الكلام.

– اسمعي، إنه سر عائلي كبير. لا تخبري به أي شخص أبدًا. لقد حملته على ظهري زمنًا طويلًا. لكني الآن أرى أن الوقت قد حان لإطلاعك عليه.

كانت “بمبي” متلهفة لسماع السر الذي توشك والدتها أن تبوح به. فعقدت ذراعيها وأصغت السمع.

– لا شك أنك لا تتذكرين الكثير عن جدك “سليمان”. فقد مات وأنت طفلة صغيرة. اتُهِم جدك في شبابه بالتورط في حادثة وقعت في مسجد “ساعتلي” في “سالونيكا” أسفرت عن مقتل قنصلين. خشي جدك الوقوع في قبضة الشرطة ومن ثم شنقه، فاختبأ في جبال مقدونيا طوال عامين قبل أن ينجح في الهرب إلى قبرص. ولم يعد إلى “سالونيكا” قط.

كانت “بمبي” مندهشة لما سمعته للتو، وتنتظر بفارغ الصبر معرفة ما ستؤول إليه الأحداث. وحينما صمتت أمها دقيقة سألتها باستعجال:

– وماذا حدث بعد ذلك؟

– عندما وصل جدك إلى قبرص، كانت الجزيرة ما زالت تحت الحكم العثماني، إلا أنه تم التنازل عنها لصالح البريطانيين بعد ستة أشهر. أخفى جدك هويته الحقيقية وأطلق على نفسه اسم “محمد”. أظنه كان اسم أخيه الأكبر الذي قتله متطرفو مقدونيا. سكن فترة في حجرة صغيرة بفندق قرب الميناء. أجَّر بعدها منزلًا لنفسه في “ليماسول”. كما بحث عن وظيفة، لكن اليونانيين رفضوا توظيفه. فاضطر إلى العيش على المبلغ الذي جاء به. لكن أبي كان رجلًا ماهرًا، بدأ يتاجر في الأغنام على نطاق ضيق، وبمرور الوقت تمكن من جني مبالغ جيدة من ذلك العمل.

كان يسير في أحد الأيام برفقة أحد زملائه التجَّار في شوارع “ليماسول”، حينما قابل فتاة يونانية وأغرم بها. تمكن من تبادل بعض الكلمات معها قبل أن يقترح عليها اللقاء مرة أخرى. ورغم إعجاب الفتاة به هي الأخرى، فقد أخبرته أنه لا يسعهما اللقاء ثانية. عندما استفسر جدك عن السبب، أخبرته أن والدها كاهن محلي. لكنه أصر على رؤيتها ثانية، فتقابلا في اليوم التالي. استمرت لقاءاتهما على هذا المنوال، وسرعان ما نما الحب في قلبيهما. وبعد فترة من الزمن، عرض جدك الزواج على الفتاة، لكنها أخبرته باستحالة ذلك حيث لن يسمح أبوها بزواجها من مسلم أبدًا. رغم ذلك أصر جدك على أن بإمكانهما التوصل إلى حل ما دامت متمسكة به حقًا.

باختصار، توسلت الفتاة إلى أبيها. وهددت بالانتحار إذا لم يسمح لها بالزواج منه، لكن والدها رفض حتى مناقشة الأمر، ففرا معًا في نهاية الأمر. وفي اليوم التالي قصدا الحاج “صالح خوجا” إمام تكية “بيري علي”.

– الحاج “صالح خوجا”؟ هل تقصدين جدي “صالح خوجا”؟

– أجل، كان جدك “سليمان” وجدك “صالح خوجا” أصدقاء مقربين. لكن توقفي عن المقاطعة واستباق الأحداث.

– معذرة، أكملي من فضلك.

– تلت الفتاة الشهادتين في اليوم التالي لهروبهما، وصارت مسلمة وتزوجت من جدك. غيَّرت اسمها من “إليفتيريا” إلى “فريدة”.

– إذًا فقد تزوج جدي من فتاة يونانية؟ هل تقصدين ذلك؟

– أجل، تزوج فتاة يونانية.

في تلك اللحظة جاء “شعيب” الذي يصغر “بمبي” شقيقته بسنوات عدة، وطرق الباب مناديًا:

– ألن تأتي لتناول الإفطار معنا؟ إن الجميع ينتظرك.

كان توقيت وصول “شعيب” مثالي، فاستغلت “زهرة خاتون” ذلك وأخبرته أنهما سينضمان إليهم، وتحركت باتجاه الباب.

جلس الجميع في أماكنهم حول المائدة الخشبية المستطيلة أسفل التعريشة. وجلس السيد “روسوس” على رأس المائدة في مقعد حديقة خشبي، بينما تجلس زوجته في الناحية الأخرى من المائدة. جلس الآخرون على دكك خشبية على جانبي المائدة. وأجلس السيد “روسوس” “أحمد غالب بك” عن يساره، وحجز نظيره الأيمن لـ “زهرة خاتون”، التي ما إن رآها تخرج من المنزل متجهة إليهم، حتى قال مازحًا:

– شعرنا بالقلق عليك. ماذا حدث؟ كدنا نموت جوعًا خلال انتظارنا لك. كنت ألتهم فتات الخبز خلسة، دون إثارة انتباه “كريستيني”.

حافظت “زهرة خاتون” على هدوئها.

ـ معذرة على التأخير. احتجت إلى مناقشة “بمبي” في موضوع بسيط.

واتخذت مجلسها عن يمين السيد “روسوس”، بينما جلست “بمبي” إلى جوار زوجها. بدأ الجميع في تناول الطعام بعد أن تمنى لهم السيد “روسوس” وجبة طيبة.

لم تستطع “بمبي” رفع عينيها طوال الجلسة عن والدتها والسيد “روسوس”. كانت تراقبهما باهتمام. لم تفهم سبب الألفة التي تطغى على حديثهما، كما لو كانا أصدقاء قدامى، ولم تفهم سبب مناداة السيد “روسوس” والدتها في بعض الأوقات بـ “زهرة مو”!

عندما توقفت عربة الخيل التي أرسلها “حولقي” أمام منزل آل “روسوس”، كانوا قد انتهوا من الطعام منذ فترة، وخاضوا في حديث ممتع. توجه السيد “روسوس” إلى بوابة الحديقة عند سماعه صوت العربة. ورغم انتظاره وصول عربة “حولقي”، فقد سأل السائق عن سبب مجيئه. أجاب السائق:

– أرسلني “حولقي بك” يا سيدي. أنا هنا لاصطحاب الضيوف المتجهين إلى “إيفديم”.

كان السيد “روسوس” لا يرى حاجة لإيجار عربة، لما كان بوسعه إرسال عربته الخاصة معهم.

عاد السيد “روسوس” إلى ضيوفه قائلًا:

– لقد أرسل “حولقي” العربة من أجلكم. لو لم يفعل لجلسنا فترة أطول ولأرسلت عربتي الخاصة معكم. لكن العرف لا يسمح برد العربة الآن. لذا أرى ألا نترك السائق ينتظر طويلًا.

لم يتبادلا كلمة طوال طريق العودة. وحاول “أحمد غالب بك” إخبار “بمبي” بشيء ما، لكنها لم تبد أي اهتمام. فلم تكن قد تصالحت بعد مع استضافة عائلة “روسوس” لهم، ولا مع ما أخبرتها به والدتها قبيل الإفطار. علاوة على دهشتها من تقبيل السيد “روسوس” واحتضانه والدتها كأنهما يودعان بعضهما البعض، وحبس والدتها دموعها وهم يبتعدون عن منزل عائلة “روسوس” في عربة “حولقي بك”.

أيقنت “بمبي” أن القصة أكبر بكثير مما أخبرتها به والدتها حتى الآن.

(ميدل ايست اونلاين)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى