الشعر في ظل الإنهاك الحضاري والثقافي… هل ثمة مجال للعودة؟

رامي ابو شهاب

يكتسب الشعر العربي مكانته في الذاكرة العربية كونه يتصل بموروث يمتد لأكثر من خمسة عشر قرناً، وهذا يجعل منه منتجاً تاريخياً علاوة على تجذره في الوعي العربي بوصفه نموذجاً أقرب إلى الأسطوري، الذي يختزن عدداً من التمثيلات التي تقبع في الذاكرة العربية، وتحديداً فيما يتصل بماهيتها الثقافة، وغرورها، فالشعر يعدّ نموذجاً للتعريف بالذات المتعالية بتكوينها البلاغي نظرا لوفرته في حين لا تتوفر عليها الأقوام الأخرى، كما تذكر مصنفات التراث العربي.
الشعر ينتمي إلى أمة اكتسبت حضورها التاريخي من خلال اللغة، ولا شيء سواها «فالشعر ديوان العرب». ولعلها عبارة تتصف بنزعة متطرفة أو مطلقة كسائر المقولات العربية تجاه ظاهرة ثقافية ما، كالظاهرة الشعرية العربية، غير أن هذا التوصيف بدأ في التزحزح بعض الشيء في عالم اليوم، نتيجة بروز علامات القلق في تحديد ماهية « العروبة» أو العرب بوصفهم أمة في ضوء الأفق المستقبلي، الذي يفتقد إلى الكثير من القيم المشتركة حسب تنظير أرنست رينان في مقالة له بعنوان: ما الأمة؟
فالأمة، والعروبة، كما مفهوم الدولة – بما فيها الدول العربية المحورية – تتجه يوما بعد يوم إلى أن تتحول إلى كيان بلا معالم حضارية، وبلا مشترك وجداني، وهذا ما يعني أن الكتابة الشعرية لم تعد الأداة الأمثل للتعبير عن المكون العاطفي أو الوجداني الجمعي، الذي تلاشى ليحل بديلاً عنه نموذج اختباري قلق بهدف إعادة تعريف الذات من جديد. لا بد من الإقرار بأن الشعر العربي يشهد أزمة على مستويات الحضور والتأثير والانتشار، ففي السنوات العشر الأخيرة لم يعد الجمهور ينتظر القصيدة كما كان في السابق، فالآن بات الشاعر هو من ينتظر الجمهور كي يقرأ القصيدة، إن التسليم بتحولات شهدتها عشر سنين تكاد تعادل في أثرها قروناً تبعاً لعمق القفزات وحدتها على مستوى الاتصال والتطور التقني.
لقد حصل انكسار في تلقي الشعر على مستوى الشعور النفسي .. ونعني الانتقال من التواصل الوجداني المقروء والمسموع إلى التواصل الفوضوي نتيجة خاصية التنقل المستمر التي أتاحتها التقنية الجديدة، وبهذا فقدنا قيم التجانس الشعوري، فهل يمكن أن نحيل ذلك إلى أن المتلقي لم يعد يحتفي بالمحفزات الشعورية العاطفية؟ أم هل بات أكثر وعياً بالوعي العقلي أو لعله فقد الإيمان بلغة تبدو غير جديرة بالتصديق كونها فقدت رونقها، أم ربما لأن التاريخ بدأ يكشف عن زيف توقعاته؟
لا شك في أن القصيدة العربية تصارع للبقاء على مستوى الوجود، وهذا يكتسي قيمة مضاعفة كونها ترتبط بإشكاليات حضارية، علاوة على كونها ترتبط بالمزاج الثقافي العام الذي لم يعد يقبل على الأدب عامة في ظل انفتاح منصات جديدة للتعبير عن الذات الإنسانية التي لن تكف يوما عن «داء التعبير» الذي يعدّ صفة ملازمة للذات البشرية التي تتسم بالضجر والعبثية والتذمر، كما الرغبة بالتغيير، أضف إلى ذلك أن الإنسان في المجمل كائن سلبي يمارس اضطهاد الذات الإنسانية أو الآخر، بالتجاور مع تسرب الآمال الجمعية، فالتعبير يبقى مجالا تنفيسيا حيوياً لا يمكن أن ينتهي بأي شكل من الأشكال.
من القضايا الواضحة التي لا مجال لإنكارها حقيقة نكوص الخطاب الشعري على مستوى الأداء الفني والمقاصد، وتتلخص بحالة من الخفوت التي تطال الوهج الشعري على الرغم من وجود الشعر والشعراء، وعلى الرغم أيضا من وجود أسماء شعرية كبيرة في عالمنا اليوم، كما لا يمكن أن نعدم وجود مواهب – إلى حد ما – قابلة لأن تعيد طرح القيمة الشعرية، ولكن الإشكالية تكمن في السياقات، فمع الإقرار بوجود أزمة في خلق مناخات شعرية أصيلة، في ظل متتاليات من الأصوات الشعرية، التي ظهرت بعد المرحلة الدرويشية التي أتت تتويجاً لجيل شعري، بدأ مع السياب وقباني وعبد الصبور والبياتي وغيرهم من الشعراء الذين آمنوا مجتمعين بقيم حقيقية، تتصل العروبة ضمن مشاريع أيديولوجية واضحة، غير أن الكتابة الشعرية الجديدة مع أنها سعت إلى إعادة إنتاج شعريتها، ولكنها لم تتمكن من خلق تمايزات خطابية خاصة بها، أو لنقل إيجاد صوتها الخاص، كونها لم تتأمل سياقات نشوئها، وإيقاعات عصرها، فبقيت عالقة أو قائمة في ظلال تكوينات الأسلاف اللغوية ورؤيتهم، مع تنويعات مختلفة لشعراء آخرين استطاعوا أن يضيفوا أثراً شعريا لمرحلة انطوت برحيل محمود درويش، حيث لم يعد الشعر العربي بعد ذلك فعلاً رائجاً. لقد انطفأ الشعر العربي لا لكون هذا الجيل من الشعراء قد خطفوا اللغة إلى عالم الغياب، فهنالك ما زالت أسماء كثيرة قادرة على صون الشعر، غير أن المعضلة تتمثل بأن الأجيال الجديدة وقعت في حيرة من أمرها، فلا هي قادرة على خلق قطيعة نهائية مع النماذج المتعالية التي ظهرت مع حركة الحداثة العربية، التي شهدت نكسة 1967 وتداعياتها، واجتياح بيروت والانتفاضة، وحرب الخليج وغزو العراق.. ولا هي قادرة على أن تتمثل فهماً حضارياً جديداً لهذا العصر الذي فقد محورية» القيمة العروبية».
لقد تحول العالم في الألفية الثالثة إلى كيان لا مركزي، إذ لم يعد ذاك العالم الذي عبر عنه درويش ونزار قباني وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وسعدي يوسف والبياتي وعبد الصبور، وغيرهم، كما أن الأجيال الجديدة فقدت اتصالها النفسي والثقافي مع الشعر العربي بنموذجه الموروث، فهي لم تعد تمتلك تصوراً جديداً للشعر، لقد بتنا بلا وجهات شعرية في ظل افتقاد أفق فكري أو مشروع قادر على تكوين منظومة شعرية جديدة، وهذا يتزامن مع تلاشي الأيديولوجيات الواضحة، لقد انكسر الشعر حتى أضحى ممارسات لشعراء يبحثون عن ذاتيتهم المفرطة بحثاً عن بقايا متخيل الشاعر، فهم ما زالوا ينتمون إلى بقايا ممارسة رومانسية تعنى بالشعر، في حين أن الأصوات الأكثر حداثة من كتاب اليوم أو هذا الجيل لم يعودوا يتصلون بأي معنى للشعر لا على مستوى الممارسة فحسب، إنما على مستوى التعريف، فغدا الشعر مراهقة كتابية يتقنها بعض المتعطلين وأشباه الكتاب، وهذا أضعف مستوى المنتج الشعري الذي بات كتابة فائضة عن الحاجة في زمن أصبحت فيه التغريدة «شائعا بوصفها بديلاً عن الجملة القصيرة» أو الجملة الشعرية، وبهذا، فإن ثمة تحولاً في وعي الكتابة على مستوى الأنساق والقوالب، كما الوظيفة، ويمكن أن نضيف إلى ذلك الردة الثقافية الحضارية التي يعاني منها العرب على مستوى تكريس أنماط من التفكير البدائي للبحث عن نماذج من التعصب القطري، مع انبثاق كتل من النماذج الاستهلاكية لثقافة المظاهر، فغدت الثقافة تشكيلاً دعائيا بلا مضامين، أو أنساق فنية.
إن التسليم بمقولة «الشعر ديوان العرب» لم يعد صالحاً يأتي استجابة لزمن لم تعد فيه مقولة «الثقافة العربية» صالحة كونها تتعرض للانتهاك يومياً من خلال تصاعد كل ما يمكن أن يؤدي إلى نقض هذا المفهوم، فالشعر العربي لطالما ارتبط بالقضايا العربية القومية باعتبارها قيماً جوهرية، وفي ظل تبدد هذه القيم سواء أكانت قومية، أو أيديولوجية انبثقت خطابات بديلة تنادي بالثقافة القطرية الضيقة، والتيارات الأدبية المجانية، لقد بتنا نشد انحسار الخطاب الشعري العابر للجغرافيات، كما لم يعد ثمة مجال لكتابة شعرية تعتمد نموذجا عاطفياً، أو جمالياً إنسانياً، فالمزاج الجديد لم يعد يستيسغ هذا القول، فعناصر الاختلاف تفوق قواسم الاتفاق، فلا جرم أن تتقدم الرواية لأنها الأصلح للتعبير عن هذا التشرذم الحضاري، فضلاً عن تجسيد مستويات من الأزمة عبر نموذج الحكي، كما أن الجماهير لم تعد تمتلك هذا القدر من الثقافة أو المزاج المرهف للخوض في الشعر، وفك مغاليقه، أو البحث عن مواقع التوتر والجمال فيه، لقد باتت الجماهير تعاني من خمول على مستوى التلقي، ولهذا فإنها تحتاج إلى نموذج سردي أقرب إلى مخدر، حكاية تتسلى فيها، أو لترى نفسها، من خلالها، تعاين خياراتها، وتمارس نقدها لذاتها. فالتكوين الشعري والتحفيز العاطفي، باتا غير قابلين للتطبيق، فخطابات الشعر لم تعد صالحة كون الجماهير فقدت حماسها، ولم تعد تمتلك هذا القدر من العاطفة في أزمنة الجوع والدمار واللجوء والخوف، وهيمنة الاستهلاك، وهي مفردات أجهزت على المكون العروبي العاطفي الذي ينبغي أن يخضع لأسئلة على مستوى الوجود. ليس ثمة مجال للحديث عن ديوان للعرب؛ لأن العرب لم يعودوا يمثلون نموذجاً من التجانس الموحد الذي يقف في مواجهة مخاطر خارجية، كما طرح الجابري في كتاب له، حيث يذكر أن العروبة بوصفها ظاهرة خطابية وممارسة ظهرت مع النهضة العربية لمقاومة نهج التتريك الذي مارسته الدولة العثمانية، في حين أن الخطاب الإسلامي ظهر للرد على الحملات الاستعمارية التي شابهت الحملات الصليبية، وبين هذين التحولين ازدهر الشعر العربي في القرن العشرين، في حين أن هذا القرن ينطوي على قدر غير واضح من حيث توصيف من هو العدو ؟
لقد طغت الرواية بوصفها حكاية الخيبات، نستمع لها كممارسة تخديرية كما فعلت شهريار مع شهرزاد، فلو أن شهريار أنشدت شعراً لأدى الشعر في لحظة ما إلى تأجيج عاطفة كامنة في نفس شهريار، ربما ينتج عنها فعل لا تحمد عقباه، ولهذا كان لا بد من الحكايات والحكايات، وهذا ينطبق على الذات العربية التي تعاني على مستوى التركيب النفسي فيما يتعلق بالذات، وتوجهاتها المستقبلية، وهذا يقودنا إلى أن الشعر العربي لا يمتلك مستقبلاً نظراً لمحدودية هذا المستقبل الخاضع لحالة ضبابية في تحديد أولوياته في ظل الاقتتال الدائم، وتحييد قضاياه المركزية التي تتمثل بالتنمية، وبناء ديمقراطيات علاوة على العودة إلى القضية المركزية، ونعني فلسطين التي من خلالها يمكن التخلص من كافة الإشكاليات الحضارية التي نعاني منها، فنحن الآن في ظل مرحلة عدم التوازن، وعاطفتنا تبدو غير مستقرة، ولهذا أضحى الشعر منزوع الأثر، بارد اللغة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى