صراع الرغبة والخيانة

حميد عقبي

جليل ليسبير، صاحب فيلم «إيف سان لوران» يعود في فيلم «إيريس» مخرجا وممثلا، ويوضح أنه حاول المزج بين السخونة والبرودة وحاول خلق صور غنية، أي التركيز على عمق الحقل وعلاقة مغرية مع الضوء والحدث، من أجل الخروج بعمل شيء حي مغروس في لحمة الكادر، أي بناء صوري لا يعتمد على السرد الحكائي السهل والمفضوح، كل صورة حية تزداد جمالا وأناقة مع حضورها الزمني، وكل عنصر يحمل روحا ديناميكية، والديكور فيه بعض القسوة وكل هذه العناصر تتنفس وتتعايش مع بعضها بعضا لخلق فيلم مختلف وفيه التشويق.
شارلوت لوبون في حديثها عن الفيلم نفهم من حديثها أن اللون الأسود هو أسود، أي أننا مع فيلم لا يتحدث عن الأخلاق كونها غير موجودة. وهو فيلم غريب الأطوار وكشفت أنها عملت مع سيدة مختصة وخبيرة في مجال الجنس وتساعد زبائنها في دعم قدراتهم الجنسية بحرية، ودون النظر للتابوهات وكان هذا ضروريا قبل تأدية الدور، فالمرأة المهيمنة والسادية لا تعني التوحش الحيواني، فهذا العالم له قوانينه والعلاقة فيه مبنية على الثقة والحب والأحاسيس الناعمة، وله أسرارة الخاصة ويصعب أن نكتشفها بسرعة، لكن شارلوت حاولت أن تصل لروح الشخصية، خصوصا في مشهدها الساخن مع أنطوان، إذ ليس من مهمتها محاكمة الشخصية، وهي بعيدة جدا عنها، ما جعلها تخاف ولكن بعد مناقشات مع المخرج وجدت أنها بحاجة لتلعب هذا الدور الغريب والمناقض تماما لها. وترى أن جليل يقترب ومتأثر بالأسلوب الأمريكي ويظهر هذا في تركيب صوره وما تعكسه، وكذلك الإيقاع وطريقة السرد.
ماكس (رومان دوريس)، الميكانيكي الذي يعاني من مشاكل مادية تقذف به الصدفة ليقع ضحية أنطوان وعشيقته (شارلوت لوبون) وهكذا تتقرب منه ليختطفها توهمه بأنها ايريس زوجة أنطوان وهو الرجل الغني الذي يظهر أنه يحب زوجته وهكذا ندخل في سلسلة أحداث يلفها الغموض، تظهر المحققة (كامي كوتان) بعد عملية الخطف الموهومة، ولكن ماكس هو من يقودنا لنكتشف تفاصيل أكثر عن الشخصيات وما يربكها ونكتشف جزءا من حقائق صادمة.
ينطلق الفيلم ليفرش التشويق على أرضية غير ممهدة، يحاول مزجها ببعض مذاقات ألفريد هيتشكوك، يعمل لسحب خيوط مؤامرة معينة، على الرغم من أننا نشعر بالتقلبات، ولكن، هنالك الرغبة في الحفاظ على البراءة المحتملة لجميع شخصياته، فلا يوجد شر مطلق ولا محدود، ونتفهم بعض العوامل والدوافع النابعة من الضعف الإنساني ومحاولة لمناقشة الظروف، لكن مصائر بعض الشخصيات تكون مفجعة، خاصة هذا الرجل الغني والباحث عن اللذة التي يجدها في تعرضه للجلد والذل كعبد يعشق سيدته التي تصلي ظهره بالسياط وتتسبب بقتل زوجته ثم تخدعه ويكون الموت والانتحار الخلاص الوحيد.
اللقطات الافتتاحية كلاسيكية، ولكنها صورت بذكاء، تمتزج وتتفاعل لتوليد ديناميكية خاصة أظهرت جو باريس بعد التفجيرات الإرهابية. بدا واضحا الجموح للغموض وخلق الرعب في كل مشهد وجعله مفجعا، ونرى الملامح الباريسية تفرض طقوسها على هذا الفيلم المقتبس من عمل رعب بوليسي ياباني تم إنتاجه عام 2000 للمخرج هيديو ناكاتا، ولكنه لم يعرض في فرنسا وتعامل جليل ليسبير بحرية بعد شراء حقوق السيناريو، ما يجعلنا لا نشعر بتلك الجذور اليابانية للفيلم.
نحن لسنا مع سيناريو ينقل الحدث ليقنعنا بمصداقيتها ولا محاولة لتمرير رواية الفيلم الحقيقي، ولكن يحسب له قيادتنا مع ذكريات الماضي، ويستند إلى الخلط ليشد تركيز الجمهور للمشاركة في تركيب قصة الفيلم.
بناء العمل لم يؤسس على خطة الأشرار الجهنمية فقط، ولكن على غباء الشخصيات الرئيسية، أو لنقل جشع بعضها لنيل أكثر مما يستحق، مثلا أنطوان يملك المال والجاه ولديه زوجة جميلة لكن دافع اللذة الجنسية التي يسعى للحصول عليها في ناد سادي تورطه أكثر مع عشيقة تشبه زوجته إيريس، وهو يريد الجمع بين كل هذه المتع وهكذا يفقد كل شيء.
بين الضوء/الظلام، بين الرغبة والخيانة والشهوة والبذاخة، نحن ننشغل في هذا الكون الملتهب ، عناصر الطموح الجمالي واللغة السينمائية تسير جنبا إلى جنب مع انطلاق أول قطرة، نتورط مع قطعة من الألغاز المبعثرة، وهذا السرد غير الصحي يثير فضولنا ونركض لمتابعته. هناك تشابه بين بعض الشخصيات وهذا لا يعني دائما أنه من السهل اكتشافها. يمكن أن نفهم أن الحب المنحرف هو السبب وراء قتل إيريس، المسألة ليست قصة حب ولعل المشاهد السادية تثبت ذلك. نحن مع عدة عوالم اجتماعية هي إجمالي الأضداد. هذه الإضافات المتشعبة جعلت القصة تنحرف من مسارها الأصلي لتخلق الكثير من الصدمات.
الأطراف الفاعلة في الفيلم تعاني من النقص الأخلاقي والكثير من العيوب، لكننا بلا شك في نهاية المطاف سنعلن المحبة لهم على أي حال، تلك الكائنات كانت قاسية في تعذيب نفسها حيث تورطت في شرك العاطفة والرغبات وكانت تظن أنها قادرة على الفرار من مصير مفجع، تسحق الشخصيات وتظل غامضة ومحكوم عليها بالنهايات التراجيدية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى