السيرة الذاتية للشاهد المطلق هانز جورج غادامير

حسونة المصباحي

إلى جانب مارتن هايدغر، كان هناك العديد من الفلاسفة الألمان الآخرين الذين أثروا الفكر الفلسفي في القرن العشرين وساهموا مساهمة فعّالة في توسيع آفاقه في جوانب مختلفة.

ومن بين هؤلاء إدموند هوسرل، مبتكر الفينومينولوجيا، وكارل ياسبرس وهانز جورج غادامير، الذي صدرت سيرته الفلسفية في كتاب “التلمذة الفلسفية- سيرة ذاتية”، بفضل ترجمة أنجزها العراقيان حسن ناظم وعلي حاكم صالح.

وقد كانت هذه الترجمة أمينة وموفقة بحيث تساعد القارئ على قراءة هذه السيرة الحافلة بالأحداث المشوقة والاكتشافات المعرفية والملاحظات الرشيقة والذكية وبورتريهات بديعة عن شخصيات فكرية وفلسفية صيغت بمتعة ويسر.
مجايلة أحداث هامة

عاش غادامير (1900-2002) كل أحداث القرن العشرين تقريبا والمتمثلة في الحربين الكونيتين، وواكب صعود النازية وانهيارها، وتابع برنامج تقسيم ألمانيا إلى شطرين، وكان شاهدا على سقوط جدار برلين وإعادة توحيد ألمانيا، كما عايش أيضا العديد من الأحداث الهامة الأخرى.

وكانت مسيرة هذا الفيلسوف الفذ الذي كان أستاذا مرموقا ومهاب الجانب ورئيسا لجامعات عدة وعضوا في نواد فلسفية وفكرية ألمانية وعالمية ثرية ومثيرة للاهتمام، ما دعا الفرنسي جاك دريدا إلى وصفه بـ“الشاهد المطلق”.

وولد هانز جورج غادامير في 11 فبراير 1900 بمدينة ماربورغ. ومنذ طفولته وهو يتذكر “جبنة ايدام المستديرة الحمراء ومروحة مدوّمة في النافذة المطلة على شارع أفولر، وسيارة إطفاء الحرائق التي تسحبها أحصنة ضخمة”. كما يتذكر الانتقال من الإضاءة بالغاز إلى الإضاءة بالكهرباء وظهور السيارات الأولى.

وفي بداية الحرب العالمية الأولى، شاهد أول فيلم في حياته وتحصل والده على هاتف. وفي المدرسة كان هناك العديد من المدرسين الذين يستهويهم ضرب التلاميذ ضربا مبرحا. ومع ذلك شكلت المدرسة بالنسبة إليه فضاء جميلا مارس فيه ألعابه الرائعة المتمثلة في تعلم لغات أجنبية ستكون خير عون له في مسيرته الفلسفية في ما بعد.

وفي سنوات الشباب، كما جاء في الكتاب الصادر عن “دار الكتاب الجديد المتحدة”، انشغل هانز جورج غادامير بالفلسفة وأدمن حضور الحلقات الفلسفية التي تناقش أهم القضايا إشكالية وأشدها تعقيدا. وفي تلك الفترة اهتم أيضا بالموسيقى والشعر والأدب.

وبفضل أستاذ يدعى بول ناتورب، ازداد اهتمامه بالفلسفة. فقد كان هذا الأستاذ يتمتع بشخصية آسرة وبقدرة عجيبة على تبليغ أفكاره، حيث لا يترك أحدا من طلبته غافلا عنها. وقد جاء الشاعر الهندي الكبير طاغور لزيارة ناتورب، فأقام له هذا الأخير احتفالا بهيجا في الحرم الجامعي.

وكان هايدغر يشاهد بين الحين والآخر برفقة ناتون هانز جورج غادامير الذي يكنّ له تقديرا كبيرا. وكان غادامير في العشرين من عمره لما اكتشف “الفينومينولوجيا الظاهراتية”، فتعلق بها ودرسها بعمق خصوصا بعد أن حضر حلقات ماكس شيلر الذي كان نجما لامعا في سماء الفلسفة الألمانية في العشرينات من القرن الماضي.

وكتب عنه غادامار يقول “تميّز شيلر بنهم عظيم للفكر. فاقتحم كلّ ما يمكن أن يغذيه، وامتلك طاقة تنفذ إلى جوهر كل شيء. وثمة قصة تروى عنه تقول إن قراءاته كانت تستبد به إلى درجة يمزق فيها صفحات الكتاب الذي كان يقرأه، ويدسها في يديْ من يراه من زملائه ليجبره على مشاركته القراءة”.
الشغف بالفلسفة

ازداد غادامير شغفا بالفلسفة عندما انتسب إلى قسم الفلسفة في جامعة فرايبورغ، والذي كان يشرف عليه مارتن هايدغر الذي كان يبدأ نهاره مبكرا. وفي الصباح الباكر يدرّس طلبته أرسطو. يفعل ذلك أربع مرات في الأسبوع الواحد.
وعن محاضراته، كتب غادامار يقول “كانت تلك المحاضرات تأويلات بارزة، ليس فقط بسبب قدرتها المناسبة على التوضيح، بل أيضا بسبب المنظور الفلسفي الذي دشّنته.

وفي تلك المحاضرات كنا نواجه موضوعات بطريقة لم نعد نعرف هل هي موضوعات تخصّ هايدغر أم تخصّ أرسطو؟ إنها حقيقة تأويلية عميقة فهمناها آنذاك وقد دافعت عنها لاحقا وسوغتها نظريا”.

وكان غادامير أستاذا في جامعة لايبزغ عند اندلاع الحرب العالمية الثانية. ومع أنها كانت باسطة نفوذها المطلق على المؤسسات الثقافية والأكاديمية، فإن النازية، حسب ما يقول، لم تتمكن من اختراق الجامعة المذكورة. وقد أصر غادامير على إخبار طلبته بأن الخوض في السياسة أمر غير مقبول. لذلك تمكن من مواصلة إلقاء محاضراته عن كتاب “بحوث منطقية” لهوسرل دون مشكلات.

وبعد الحرب أمضى غادامير سنوات عدة أستاذا بجامعة لايبزغ التي كانت محتلة من قبل الجيش الأحمر الروسي. وبسبب المضايقات التي كان يواجهها فكّر في الانتقال إلى ما كان يسمى بـ”ألمانيا الغربية”، ولكن لم يتسن له ذلك إلاّ بعد مصاعب كثيرة واجه خلالها السجن. وهي الفترة التي كان فيها أستاذا بجامعة هايدلبرغ.

وتعرف غادامير على أدورنو الذي كان آنذاك بمثابة “الأسطورة”، لكنه لم يتحمس لأفكاره كثيرا. وكتب يقول منتقدا جماعة “مدرسة فرانكفوت” التي كان أدورنو أحد أعمدتها، إن “أنصار المدرسة المذكورة ذهبوا ضحية عمى غريب. لذلك عجزوا عن أن يتبيّنوا على أي أرضية يقفون فعلا؟”.

وجاء في حديثه عن كارل ياسبرس “يقتفي ياسبرس في تحليلاته مشاعر شيلينغ العميقة. تلك المشاعر التي عكست ضمن الفكر المثالي انفصال الذهن عن أساس الوقائع الرئيسية التي يعتاش عليها العقل. ومثل هياغرن جعل ياسبرس الفلسفة تصدح بنغمة جديدة، وهي نغمة غير مألوفة لدى الكانطية المحدثة آنذاك في هايدلبرغ”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى