نضال كرم يرى أن القصيدة كائنٌ جسده الحروف وروحه الفكرة

عبد القادر كعبان

لا يحتاج القارئ العربي إلى أن نقدم له المبدع نضال كرم، لأنه اليوم أحد الأسماء الشعرية العربية البارزة في المشهد الأدبي بعد صدور العديد من مجموعاته الشعرية، ومنها “أعيش بك وبالحب”، “لهمس تعتق من حبر الغياب”، “حلم في ارتباك الروح”، “تمطرني حبا.. أسرف في الموت”، كما كتب في المقال السياسي والقصة والرواية.

في هذا الحوار نقترب من بعض اهتماماته الأدبية عموما والروائية بشكل خاص لنكتشف القضية الرئيسة لهذا المبدع السوري وطموحاته في عالم الأدب والثقافة مستقبلا.

يعرف نضال كرم نفسه بأنه الرجل الطفل، البسيط حد التعقيد، والحر حتى آخر قيد صدئ في زنزانة الحياة التي أرادها الإنسان الوحشي، المتواضع حد الغرور، والعميق في حزنه حتى آخر نبض له، المحب المنغلق على معنى الحب حتى تجاوز الكون والمنفتح في منح الحب حد البكاء، وضع الكون في زجاجة واحتفظ بها في يده ولم تتأتَ له الشجاعة لكي يرميها في بحر الجنون الحالم بفوز روحه وانعتاقها من ترهات كثيرة أهمها الحياة، المتصالح مع نفسه حد التناقض والمزاجي الودود من دون إيذاء لروح، الثائر على التخاذل والرافض للكذب حتى الموت المتعقل حد الجنون، والثابت على سخريته من بشاعة أزهقت الإنسانية أو تكاد.

ثم يقول: تشكَّلَ عالمي الخاص بحساسية كبيرة غير مقصودة، لكن بالمقابل بذلتُ ما في وسعي من عناية فائقة لتفاصيل ربما تكون غير ذات أهمية لكثيرين في هذا العالم.

من دون تعقيد وببساطة طفل، جعلتُ الحروف أصدقاء لي، فكنتُ وفياً لها وسرعان ما انجذبتْ إليَّ بطواعية ومرونة، وكالشجرة التي تواجه تعاقب الفصول نَمَتْ في داخلي الرؤى فاهتممتُ بها، ورعيتُ الأفكار التي تبني الإنسان قبل المدن، مبتعداً عن الفذلكة في صوغ ما أسطّره، فكان السطر صراطاً والحرف نجاة .. لروحي.

وهو يرى ان القصيدة كائن يكتمل تكوينه في لحظة الانتهاء من خلقه، فيُدْهَشُ ذاك الذي أسلم روحه لها، يسألها: من أنت ؟! ما هكذا أردتُ أن تكوني.

القصيدة كائنٌ جسده الحروف وروحه الفكرة، أي معنى ومبنى، وعملية التجانس في الخلق بالنسبة للغة الإبداع الشعري تتماهى روح الجمال فيها مع الشعور الخاص، وفق نظام لغة ينتصر عليه من أراد للقصيدة أن تحيا، فيحقق فيما يترك فرادة تعنيه وحده. الشعر فضاء مفتوح على خلق نوعي يتجاوز معنى الخلق الاعتيادي، لأنه حر منفلت الشعور.

والقصيدة تستمد وجودها من روح صادقة، ومن يدَّعي أو يستسهل هنا إنما يترك في حقيقة الأمر مسخاً بليداً أو وليداً مشوَّهاً .

ويوضح نضال كرم أن لكل كتاب شعري خاصية معينة، والانتباه إلى تطور التجربة الشعرية يتم لجهة الأسلوب والطريقة والمضمون، أما الروح الشعرية فواحدة.

أما النشر .. فقد كان في مرحلة متقدمة وبعد قطع عدة أشواط تخلَّلتها فترات كمون، واختزان، كانت الكتابة تقطعها لتترك أثراً.

وعن المشهد الشعري العربي اليوم يقول نضال كرم إن كل ما في الحياة تغير، وقد أصاب الشعر ما أصاب الحياة، ولكن هل طرأ تغيُّر على جملة الأسئلة التي تواكب كل مرحلة بتطور تجربة الإنسان في الحياة؟ إذن لا بد أن ثمة تطورا يحدث أو تقهقرا يقع، كل ما يتعلق بالإنسان يشبهه، والشعر لصيق بحياة الناس لا يمكن التصوُّر أن تخلو الحياة منه، وليس ثمة من ينكر اختلاف المزاج العام عن السابق، وانعكاس ذلك على جميع مناحي الحياة ومنها الأدب والشعر بشكل خاص.

ثمة من يقوم بفعل تخريبي ظاناً أن فعله تجريبي، والاستخفاف بات كنقل النقطة في هذه الكلمة من مكان لآخر، حتى يغير المعنى تغييراً جذرياً وكارثياً في أحيان كثيرة، وقد أسهم في ذلك غياب دور المؤسسات الثقافية عن تحمُّل مسؤولياتها، وهذا ما يجعل الأمر صعباً في قدرة المرء على تقبُّل موجات الادعاء والاستسهال والنفاق والتردي الصاعق الذي يقع عموماً، ولكن هل سيستمر هذا الأمر؟ لا أتوقع، إذ لا بد من صحوة وتصحيح في المسار وفرز عميق ودقيق.

ولاشك أن النشر الإلكتروني عبر مواقع التواصل الاجتماعي أسهم في كل ما تقدم، ولكن حتى هذا النشر الفوضوي كان قد ترافق بالشكل المبالغ فيه مع هزات سياسية أصابت المنطقة، ونرجو ألا يطول الحال على ما هو عليه.

وعن كتابه “ثقب في جدار الصمت” الذي يعكس جملة من المقالات السياسية قال نضال كرم: اخترتُ، قاصداً، مجموعة من المقالات السياسية التي يمكن أن تُقرَأ وإنِ امتدَّ الزمان، الواقع العربي في العموم مأزوم، والسياسات متشابهة، وما قيل أو كُتِبَ في الأمس يمكن أن نُسقطه على أحداث اليوم فنرى تشابهاً في الظروف، وفي المعالجة أيضاً، وما أمكنني قوله في فترة سابقة نراه اليوم يحدث، لأن العرب عموماً لا يستفيدون من تجاربهم، ولا يقرؤون، لذا سعيتُ إلى ترك هذه المجموعة من المقالات في المكتبة العربية علَّها تُقرأ وتفيد .. ولكي تكون شاهداً.

وعن الجانب الصحفي في شخصيته يوضح نضال كرم: الصحافة مهنة أحببتُها ومارستُها بدافع الحب، ولم أكن مُتفرّغاً للعمل الصحافي، كما أنا الآن لستُ مُتفرّغاً للأدب، وطالما اعتبرتُ أن الإبداع شرط من شروط أي عمل مُؤدّى، فلم أكتب يوماً للتكسُّب، وما ميَّز تجربتي أن اقتربتُ من الناس وهمومهم فعبَّرت عن شرائح واسعة منهم، ولم أكن لأختص في مجال محدد بكتابتي الصحافية، وكل فترة كنتُ أسمع ممن ألتقي بهم من القراء أو الاختصاصيين في الوسط تصنيفهم لما أكتبه في مجال معين يرونني فيه، فهناك من اعتبرني كاتبا اقتصاديا، ومنهم من اعتبرني كاتبا سياسيا وهكذا.

عندما تولي اهتمامك شؤون الناس وتعبّر عنهم بصدق فأنت تترك أثراً وانطباعاً إيجابياً مهما اختلف التصنيف، فالعبرة لما تكتب، خاصة عندما تشهد اهتمام الدوريات بوجودك معها وبما تكتبه، وتنشر المواقع الإلكترونية مقالاتك نقلاً عن مصدر أنت اخترت أن تكون فيه.

ويستطرد قائلا: الأدب سرقني من الصحافة، وأجده خيراً فعل في التوقيت المناسب، إذ إن الواقع الذي نشهد أحداثه منذ بَدْءِ ما سُمّي – بُهتاناً – بالربيع العربي، لم يعد يحتمل التقوُّل والتكهُّن أو القراءة الذاتية للأحداث، العالم بأسره بات مجنوناً، فهل ثمة فائدة من الكلام مع عالم مجنون؟! لقد اكتفيتُ بما كتبته صحافياً، حتى اللحظة على الأقل، وبتُّ أعبّر عما أريد قوله من خلال الأدب.

وعن وطنه سوريا يقول: دروس التاريخ حاضرة، التاريخ النقي البعيد عن الزيف والمغالاة والتزوير الذي يخص غيرها من الأوطان، سوريا وطن لن يموت، والحياة فيها مستمرة وستبقى، ما يجب أن يتم التركيز عليه هو بناء الإنسان، وحماية القيم الإنسانية والأخلاقية والتقليل قدر الإمكان من سطوة الحرب ومآسيها داخل نسيج المجتمع، أما ما دون ذلك فهو إلى زوال وأقصد هنا الإرهاب بالتأكيد، سوريا ستتعافى، ثمة إيمان مطلق في ذلك.

وعن موضة الكتابة الثورية بعد الحراك في سوريا يقول نضال كرم: عندما يكون ما حدث ثورة حقيقية، فالكتابة لن تكون موضة، وكل ما كُتب .. هذراً وصفاقة وتنكُّر لوطن عزيز.

• من الروايات التي أثارت جدلا في الساحة العربية روايتك الموسومة “ستريتش” لأنها جاءت مرآة عاكسة لتشريح ظاهرة المثلية الجنسية، فما خلفية القصة يا ترى؟

ـ لا يمكن أن يكون المجتمع بريئاً في وجود أية ظاهرة، وعندما تتفاقم الأمور ويصرُّ المجتمع في محاولة الاختباء أو المراوغة أو الانسحاب من مسؤولياته تجاه أفراده فإنه يقع في المحظور، ويستتبع ذلك كوارث تطال جميع شرائحه أو أغلبها، إذن لا بد من مواجهة الحقيقة، وعدم الاختباء وراء الإصبع، وإن لم يحدث ذلك، فعلى المجتمع أن يصمت، ويتقبَّل ما جرى، لأنه إما شارك أو تسبَّب في ذلك، الأمر إذن بحاجة إلى مواجهة فاعلة، وكما كتبتُ في إهداء الرواية “الغضب وحده لا يكفي”.

وعن عنوان الرواية الصادرة عن دار ليليت للنشر والتوزيع في العام 2014، يقول نضال كرم العنوان بوابة ويجب أن يعكس المضمون ويعبّر عنه، وأن يكون دالاً بعمق عن الحالة، بتصوّري، عبَّر عنوان الرواية عن الحالة كتوصيف وتصوير لواقع الشريحة المقصودة، ومن البديهي أن يكون لدي قبول مبدئي في وجود بعض الحالات منها، قبول مبدئي إنساني بالطبع، وليس بمن كان فظاً في التعبير عن ذاته ولكن يبدو واضحاً أن المجتمع على شفير الهاوية، وانهيار الأسس التي تقوم عليها منظومة الأخلاق جعلتْ من تفشّي هذه الظاهرة أمراً واقعاً، فكانت الرواية صرخة في وجه مجتمع عفن يدّعي الطهر والنقاء.

إن “ستريتش” أكثر جرأة من غيرها من دون إسفاف، تعرية لواقع مأزوم، ومواجهة كما أسلفت لمجتمع فاسد، رغم أن الكثيرين تمنَّوا عليّ لو كنتُ أكثر جرأة في تناول الموضوع، وهم بالتأكيد من أصحاب العقول المنفتحة الذين يمتلكون القدرة مبدئياً على محاورة وقبول المختلف عنهم، ولكن من كان مُصاباً في روحه و مدَّعياً لحالةِ رفضٍ ظاهرٍ سخيف، أو .. مُستنكِراً لوجود هذه الفئة، وفي حقيقة الأمر كان مُلوَّثاً، فقد حكم على نفسه، وليس على الرواية، وهو في الحقيقة ممن تناولته الرواية، حكم بالإقصاء والجهل والاختباء وراء أصبعه المزّرق .

إن موضوع الرواية إشكالي ولا يمكن الاتفاق عليه، ولكن ما لاحظته من خلال متابعتي، وكنت حريصاً على ذلك، أن الانطباعات في أغلبها إيجابية، والنقد الأدبي الذي تناول الرواية كان مُنصِفاً، وأتوقع للرواية المزيد من تناولها نقدياً، ولن تكون محددة بسنوات رواج.

وأعتق أنه من الضرورة بمكان أن يتقن الروائي استخدام أدواته في مواضع وتفاصيل كثيرة لكي يكون ناجحاً فيما يكتب، ويتحقق التميز في الكتابة الروائية عندما لا يعرف القارئ شخصية محددة يمكن أن يستدلَّ من خلالها على شخصية الروائي، فتجده في غير شخصية حتى لو كانت جماداً أو كائناً ليس بشرياً، والملفت أن يتمكن من إقناعك بحالة التماهي تلك، فتنجذب لما يقدمه لك .

أدّعي أنني حققت ذلك في رواية “ستريتش”، يُضاف إلى ذلك، كوني أنظمُ الشعر، وقد انطلقتُ منه قبل ولوجي عالم الرواية، ومن المعروف أن الشاعر لا يتقصَّد أو يفتعل حالة ما، بل يتفاعل مع الحالة شعورياً لدرجة عميقة، ومن دون ذلك لا يصل إلى حد التأثير في ذات المتلقي وروحه، ومن تسنى له قراءة رواية “اسبرانزا” يدرك تماماً ما أقصد، فقد غُصتُ في شخصيات كثيرة على اختلافها وتنوعها وتناقضها، وسبرتُ أغوار النفوس لأكون صادقاً فيما أكتب، وكذا الحال بالنسبة لستريتش، فبقدر ما كانت أحداثها وشخصياتها من صلب الواقع، إلا أن الواقع وحده لا يكفي لصنع شرارة التأثير في المتلقي ولتفعل الرواية فعلها بمدى التأثير في المتلقي، وخير دليل على ذلك، تفاعل شخصيات نسائية كثيرة مع “ستريتش”، وأكثرهن طالبنني بقول المزيد في هذا الجانب، وهذا ما شجعني أكثر على تناول الموضوع مجدداً في روايتي الثالثة التي أعكف حالياً على متابعة الكتابة فيها بعد توقف لظروف خاصة خارجة عن إرادتي، وهي الجزء الثاني من “ستريتش” بعنوان آخر طبعاً، لدي هدف من وراء ذلك وأضعه نصب عينيّ وأسعى إليه بكل ما أوتيت.

وعن كتاباته القصصية يقول نضال كرم: تنطلق الكتابة القصصية من فكرة، ولا تحتمل أكثر من ذلك، ولا أستطيع أن أعتبر ابتعادي عن فن القص عزوفاً أو اكتفاء بمجموعة واحدة، ربما كان ذلك لتزاحم الأفكار لدي والإلحاح عليَّ منها في إفراغها بشكل سردي أطول عبر الرواية، على الرغم من مطالبة الكثيرين لي بأن أكتب القصة مجدداً خاصة بعد النجاح الذي حققته مجموعة “لم أكن يوماً أنا” التي كتبت قصصها خلال فترة الشباب الأولى لكني تأخرت في نشرها، وقد كنت وفياً لما كتبت فنشرتها من دون أي تعديل عليها، الكتابة الأولى هي الكتابة النهائية بالنسبة لي، وتتنوع قصص المجموعة الأولى في مواضيعها لكن في المجمل تهتم بالإنسان أولاً وآخراً فتغوص في عوالمه الداخلية بقدر ما تهتم بما يؤثر في هذه العوالم وتتأثر به.

وعن النقد الأدبي لأعماله يرى نضال كرم أنه بالمجمل ثمة ندرة في النقد الأدبي، وقد بتنا بحاجة أكبر إلى وجود النقاد، خاصة لما نجده من غزارة في طباعة الكتب وادعاء الكثيرين ولهاثهم المحموم وراء الألقاب ونشر الكتب، أبارك بمن يتناول ما أكتب نقداً بناء، سواء على صعيد الرواية أم الشعر، وأهتم كل الاهتمام بأي كلمة تقال أو تكتب في هذا الجانب، لكن الآن أعتبر أن الإنصاف يتحقق بالتفات النقاد لممارسة مهامهم في النقد أو الخروج من دائرة الادعاء بأنهم نقادٌ، إذ لم يعد من المقبول فراغ الساحة الثقافية منهم، ولا أستطيع اعتبار ذلك إلا عدم مقدرة على تطبيق دراساتهم الأكاديمية على ما يُنشر، أو انشغالهم بالمجاملات الكاذبة لمعارفهم فقط واكتفائهم بذلك أو تحوُّلهم إلى أشغال أخرى يكسبون منها أكثر.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى