طيران على علو منخفض من الجسد

محمد علي شمس الدين

قاتل أو ارقص
«..احنا بنعرف ربنا بالرقص
(على لسان امرأة ترقص بحرارة في مولد السيدة زينب بالقاهرة)
… والآن، عزمت عليك الله أن تأخذني بحلمك وتصغي إلي قليلا، فأنا مريض. ولعل هذه الكلمات التي أضعها امامك، ستخرج من الورقة وترقص مثل زنوج عراة في الشمس. فكيف تقول لي قاتل أو أرقص… أنت تعرف ضعف ساقي وقد اشتدت الحمى بها… بندول الساعة يرقص يميناً وشمالاً على الجدار، وأنا لا أرقص، والشجرة في الخارج ترقص أمام العاصفة، وأنا لا أرقص، والظلال تغادر أجسادها وترقص وأنا لا أرقص، وحين سألتني: ماذا تفعل النخلة حين تتمايل في الريح؟ وماذا يفعل الطائر وهو يتمرغ بدمه على التراب؟ وماذا فعلت بلقيس حين «قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها…» (النمل 44)… أفعلت شيئاً اَخر سوى الرقص على المرايا؟
سأنهض الآن من وهدة مرضي وأرقص حتى ولو بلا قدمي، وحتى ولو على شوك الغضا… وبدأت أدور في مكاني وأقول: «في حضرة من أهوى…،…».
وهكذا من شدة الخوف تأتي الربابة. وهذه الحروب الطويلة يا مولاي تجعل رجلا مثلي يسأل كيف يعبد ربه؟ يقاتل أم يرقص؟ يرقص أم يموت؟ يلبس مدرعة الجندي ويذهب إلى المعركة أم يلبس مدرعة الدرويش ويرقص في الحضرة؟ أعود إليك وانا الحيران، أحلق على علو منخفض من التاريخ وتنتابني الرعشة من الذعر والنشوة معاً. أتعرف ما الرعشة يا سيدي؟ هي هذه تقريباً: ما يخترق جسد المرأة من برق، كلما رقصت في مكان. وأنا سأخبرك أنني ذهبت إلى مأرب، لأرى قرب السد القديم حيثما وطأت قدما بلقيس الارض الممردة من قوارير. إن «ألمقا» ما زال ثابتاً في السماء كعادته، لكن من المعبد على الرمال ما وجدت سوى الخوف. خيطين من خوف على أرض صفراء بلا جدران، يتحركان إلى اليمين وإلى الشمال، ويدوران كزوبعة صغيرة في قفر. هذه خطوات بلقيس في «معبد القمر» تدور على ارض صفراء، ارض قفراء، ارض اللاأدري.
^ «أنا لا أعبد رباً لا يحب الرقص» (نيتشه).
حسناً. ها أنت مثلي أيضاً، تختار أمراً كائناً بين الرقص والعدم. لكن أليس الرقص هو مهنة الأعمى أيضاً؟ إنه يبحث دائماً عن شيء لأنه لا يجد شيئاً. وإلى أين يمشي الراقصون؟ وما الأفلاك؟ والطيور؟ والنباتات والنساء والأمواج؟ وأنا قذفت بجسدي هنا في ذات ليلة من ليالي الشتاء. وقعت على سرير غامض وقديم وقالت أمي إنها رأت ملائكة بثياب بيضاء وزرقاء يرقصون حولي ويهزجون، وإنه ارتفع صوت من القبة:
«فتح المؤذن قبة الفلك قبل اجتمار أصابع الحلك
فرأيت سبعة أنجم طلعت ما بين مفتون ومرتبك»
ولكي تتضح الحكاية قليلا، فقد جاء الوقت لأخبرك أني أنحدر من سلالة ملوك قدماء، نزلوا أول ما نزلوا في بلاد ما بين النهرين، ثم انحدروا مع الفرات وقطعوا الجزيرة حتى وصلوا إلى اليمن السعيد… ولكن شيوخاً حملوني معهم واتوا بي إلى الحضرة ووضعوني فيها وقالوا لي امكث واعبد ربك هنا. وانا محمد. ولن أشفى إلا بأن تصدح موسيقى من هذا الخلاء، وأن أقوم وأرقص كما هي النجوم في السماء، والحياة والموت. وأن أتخذ شكل الطائر (وليكن الهدهد). أضع قبعة على رأسي وألبس ثوباً أبيض كعباءة، وألصق يدي ورجلي بجسدي كأنني الواحد، ثم أرفع اليد اليمنى إلى فوق واليسرى إلى تحت، آخذ من السماء لأعطي الارض، ثم أحرك اليد اليمنى وأضعها على القلب وكأني أحتضن الكائنات بها، ثم أدور وأدور، والرأس مائل على الكتف كطائر، فإلى أين تأخذني يا مولاي بهذا الدوران؟ وبهذا الارتحال بلا انتقال؟ ثم من أين تأتي هذه الألحان الشجية كلها؟ أهي من دوراني أنا في الحضرة؟ أم من دوران النجوم حولي؟ أم هي من موسيقى الخيال؟
…يتبعه باب في البهجة: كلب ينبح القمر في صنعاء
هذا الباب في الرقص، لا أقفله يا سيدي، إلا بعد أن أتبعه بباب في البهجة. أنت تدري أن الحروب طويلة، وأني جئت من اليمن السعيد، وأن الضحايا هناك لا يتركون أحداً ينام. لكن النائم فوق سطحه في صنعاء، فكر أنه سيان عنده صعد الموت إليه من أخمص قدميه أم نزل من قمة رأسه. فنام والقمر عال في سقف السماء على سطح بيته الابيض الهزيل المصنوع من لبن وطوب هش.. انظر إلى هذا المشهد الحالم لكائن يجلس في الصورة داخل دائرة الموت العنيف. يركز على القمر الشاسع الطالع من بين «جبل النهدين» ويحلم لكأن خدرين معاً من «القات» أنسياه الهول. وان الموت حوله يحوم على جناح طائر اسمه «العقاب بن لا أحد». وهو اسم سمعه «زيد» من الصور المتحركة.. وأطلقه على الطائرة التي تحوم حول المدينة لتختار فريستها وتنقض عليها كالعقاب وكان يضحك دائماً لغرابة ما يرى ويحصل، لأنه من شدة البلية يأتي الضحك. ثم فجأة، ووسط انفجارات قوية، نبح كلب في الجوار، كلب في الصورة. ثمة خلفية سوداء موشحة بقليل خافت من اللون الاحمر، في جانبها الايمن السفلي كتلة هي كلب صغير عجائبي، جسمه أبيض ورأسه أزرق وأصفر وأحمر، ينظر إلى قمر نصفي أبيض في النصف الايمن من الصورة. وثمة سلم صاعد من أسفل إلى أعلى، ليكون توازن في كتلة المشهد. (خوان ميرو)…
من الحروب الطويلة تأتي الصورة. ومن هدنة بين حربين.. عبد الفتاح يصور المرأة ملتفة بعباءتها تمشي وخلفها ولد حافي القدمين.. لماذا هؤلاء جميعاً لا يرقصون في صنعاء بل يموتون؟. «ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتِ. جميلة عاشقاها السل والجرب. ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن ولم يمت في حشاها العشق والطرب» (البردوني). ينام البدوي في الصحراء، وقربه أسد يتأمله، وإلى جانبه ربابة (روسو). قد يفترسه الاسد فترثيه الربابة… هذه هي الحكاية.
أعود إليك لأحلق على علو منخفض من الموت. ثم، مغمض العينين، أقوم وأرقص في الحضرة. ولو أصغيت لما ينتابني حين يضرب الشيخ على صدر الزجاجة بملعقة من معدن، ويدور دورتين ليبدأ غناءه العجيب لسمعت القشعريرة وهي تسري في جسدي والخوف والرجاء… يمتزجان في كأس واحدة… فينخفض الخد ويتسع بؤبؤ العينين… ويغدو الجسد كالحديد المحمى حين يصب عليه الماء.
والآن وقد رحل الشيخ أناديه من فوق هذا التراب ومن تحت هذا الستار من النجوم: أمن أجل لمحة نوم صغيرة نمتها غصباً عني سحبت مني هذه السبحة يا مولاي؟ وتركتني وحدي في هذه المدينة الموحشة؟
كان الشيخ ينظر إلي في وسط الحلبة. وقد تحول صوته فجأة ليكتسي لمحة غريبة من الدلال. لقد أخذه الوجد بالحبيب حتى فقد عقله وصوابه وصار صوته يتكلم وحده كما يتكلم الصوت بلا ربابة.. حبات المسبحة تطرق على كأس فارغة واليد التي تضرب على الدف انتشت وثملت وصارت تضرب على الهواء، وبدأت تصعد أصوات حمام وخراف ورياح وأمواج وسقسقة السواقي من وسط الحلبة… وكان الشيخ يدور ويقول:
«لما تدور السواقي وتجري القناة في البستان
يللي دخلت الجنينه إيه طعمة الرمان»
«وصف لحلقة ذكر للشيخ أحمد التوني. المداح النبوي المصري. توفي 2014. لقب سلطان الأرواح».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى