«البٍن».. قراءات في المسرح

عباس بيضون

قرأ كتاباً، نتركه على وسادتنا، ننام في صفحة منه نستيقظ عليها. اعتدنا أن تكون القراءة سرّاً بيننا وبين أنفسنا. نسمع الشعر، نعم، الشعر وحده ينشد ويلقى ويقع في أسماعنا. لكنّ قراءة النثر بل سماعه مقرؤاً، منشداً، من فم الكاتب أو الممثل أمر معروف في غير بلادنا، في الغرب وفي الشرق كثيراً ما نصادف النثر والرواية خاصة مسموعة وغالباً ما تبقى طويلاً في أسماعنا. هذا التقليد أدخلته الـ «بن» جمعية القلم العالمية بفرعها اللبناني إلى أدبياتنا.
عاماً بعد عام تكرر الـ «بن» هذا الفعل حتى كاد أن يرسخ في حياتنا وأن يغدو تقليداً. هذه هي السنة الثالثة التي تمرّ على هذه التجربة. كانت المرة الأولى قراءات لكتّاب لبنانيين؛ علوية صبح، نجوى بركات، حسن داوود، محمد ابي سمرا، يوسف بزي، ايمان حميدان «رئيسة الفرع اللبناني للبن حالياً» عباس بيضون. النصوص جمعتها إيمان حميدان وحققتها ونشرتها في كتاب «كتابة الكتابة» الذي نشر لتعليم الكتابة وقامت الفنانة رويدة الغالي بإخراجه وتنفيذه بالاشتراك مع فرقتها «ستديو».
كانت هذه التجربة الأولى لأداء النصوص ومسرحتها، هذه المرة غلب الأداء وغلبت المسرحة وتحولت النصوص المقروءة إلى مشاهد مسرحية. دخلت إليها جميعها حبكة مسرحية وأفعال مسرحية. كنا حينذاك أمام قراءات هي بين الأداء والتمثيل والحركة والرقص. الأمر الذي ساعد على وصول النصوص وعلى نفاذها إلى الجمهور الحاضر في معرض الكتاب العربي وفي عاليه. كانت هي المرة الأولى ـ لكن الموازنة ـ بين القراءة والتمثيل التي نجحت وأرست منذ ذلك الوقت أسساً لتجربة كان عليها مع ذلك أن تتعرض للتجريب والمعاودة مرة بعد مرة.
التجربة الثانية كانت العام الفائت وهذه المرة في مسرح مونو. كان الجديد الأول فيها هو اختيار النصوص من أعمال كاتبات عالميات ولبنانيات، لقد أخرج عمر الجباعي أداءً مسرحياً لنصوص لكاتبتين اثنتين نمساويتين هما الروائية الفريدة يلينيك الحائزة جائزة نوبل والشاعرة والروائية انغريد باخمان، وعلى الجانب الآخر راويتان لبنانيتان هما ليلى بعلبكي ورشا الأمير. هذه المرة تطرق عمر جباعي للتجربة من جهة مختلفة. غلبت القراء وأداء القراءة على اللعبة المسرحية. بقي المسرح بالطبع في صلب العمل وكان أداء القراءة نفسه مسرحيا لكن الحركة المسرحية التي بقيت في العمل أعطت الأولوية لأداء القراءة التي اخترقتها الحبكة المسرحية بدون ان تطغى عليها، وبدون ان تتحول القراءات في مجموعها إلى عمل مسرحي.
هذا العام نحن على أبواب التجربة الثالثة للقراءات المؤداة مسرحياً، نأمل أننا سنخطو فيها خطوات واسعة في التجريب. ليس هذا الأمل من الخيال وحده، النصوص التي بين أيدينا تشجعنا على افتراضه. التجربة هذا العام هي مع كتاب عرب ولبنانيين شبان. إنهم أبناء طور في الكتابة نراه لأول مرة مجموعاً ونرى لأول مرة ملامحه ومعالمه ورؤاه للعالم. لقد بدأنا منذ فترة في هذا الجديد لكنه ما زال يتململ بين أيدينا، ولم تسلط عليه نظرة نقدية تضعه في محله من تطور الأدب، تجارب شابة وبكر لكنها أعدت من الأساس للمسرح. هذه المرة لن يجترح المخرج أو المخرجة المسرح من داخل بناء النص، سيراه أمامه ظاهراً حاضراً للتجربة والأداء، سينفذ هكذا من نص إلى نص، وستتعاقب المشاهد وتشكل في ما بينها اللعبة نفسها. ما يجعلنا نطلق عليها بدون حرج «تيكي تيكا» وهي أسلوب في لعبة كرة القدم قائم على التمريرات السريعة. ولأن الكتّاب أبناء لحظتهم سنجد أن الحرب المندلعة في كل مكان الآن هي في غضون نصوصهم، من «حبل نار» الذي يتكلم عن «حلقة معادة من حديث الثورة» إلى «بهدي اللحظة بالذات» لمنى مرعي الذي يتضمن «اختفاء المدينة» إلى بيان عائلي، لأيهم أبو شقرا التي تقول «كنت بكرهه من صماصيم قلبي» إلى «الوسادة» لساري مصطفى الذي يرد فيه «هل نشعر بالخوف بين الفينة والأخرى» إلى «قبل العشاء» الذي هو حوار بين أم وابنها الذي يرد فيه «ما في شي يخليك مبسوط، حتى الحب نفسه» إلى «دفن ضفدع لهاشم عدنان» الذي يرد فيه «سرقنا جثة المرحوم من براد المستشفى» إلى «الوسادة» لساري مصطفى الذي يرد فيه «ما بك، ألا تريد ان تخرج كل الخرا الذي بداخلك».
مشاهد من نصوص مسرحية في الأصل، تعيش في لحظتها وتستوحي منها. إنها أداءات مسرحية لمسرح حقيقي.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى