«حضرة المتهم نجيب محفوظ» … الملف القضائي

محمد الشاذلي

كان نجيب محفوظ، على رغم عمره المديد (95 سنة)، يعرف قيمة الوقت، وأهمية عدم إهداره، و كان انجذابه إلى الكتابة، وراء كونه الأغزر إنتاجاً من بين أبناء جيله، لكنه كان أيضاً وراء ابتعاده عما يمكن أن يعرقله أو يضيع وقته ويبعده عن طاولة الكتابة، وعن انتظامه المدهش في كتابة نص كل عام على الأقل. حاول كثر جره إلى معارك جانبية، صحافية وإعلامية، حول موقفه من عبد الناصر، وآرائه في التطبيع مع إسرائيل، وكان أحياناً يرد بما يمكن أن يلامس حدَّ المجاملة. وكتب آخرون عن مجاملة النقاد له، فردَّ بأنه قد يكون نجيب «محظوظاً»؛ ويتبع ذلك بضحكة مجلجلة صارت علامة مميزة له. ولما انتقد الأزهرُ روايته المهمة «أولاد حارتنا» رفض نشرها في كتاب واكتفى بكونها نشرت مسلسلة في صحيفة «الأهرام». والرواية ُذكرت في حيثيات حصوله على جائزة نوبل في الآداب العام 1988، وعندما زاره رئيس الحكومة المصرية؛ حينذاك عاطف صدقي، طالباً نسخة من «أولاد حارتنا»؛ ليقرأها، لم يكن نجيب محفوظ يملك حتى ولو نسخة بخط اليد، فلم تدخل الرواية مكتبته قط. وعندما طُبِعَت على سبيل التحدي عبر صحف ودور نشر، لم يؤيد ما جرى، وغضب ممن قاموا بتزوير طبعاتها في القاهرة. لكن آخرين ولجوا طرقاً إلى ساحات المحاكم التي برأته كلها تقريباً من القضايا التي حاولت النيل منه والوصول إلى تكفيره. ملف نجيب محفوظ في المحاكم؛ هو موضوع لكتاب أيمن الحكيم؛ «حضرة المتهم نجيب محفوظ… الملف القضائي لأديب مصر» (سلسلة كتاب اليوم).
يجمع الكتاب أوراق الدعاوى التي تم تحريكها ضد محفوظ في شكل مثير، وقد يدهَش القارئ من أن مدير الاستخبارات المصرية صلاح نصر ومؤسسها الشهير؛ اتهم محفوظ أمام محكمة الأمور المستعجلة في نهاية العام 1975 بالتشهير به، في روايته «الكرنك»، التي تحولت إلى فيلم يحمل العنوان نفسه. ادعى نصر أن مسؤول الاستخبارات؛ «خالد صفوان»؛ في الرواية نفسها، تشير إليه بل تقصده تحديداً. جسَّد الشخصية في الفيلم الفنان الراحل كمال الشناوي في الدور الذي اعتذر عن عدم أدائه صديق محفوظ وأحد مؤسسي شلة «الحرافيش»؛ أحمد مظهر. مظهر نفسه كان زميلاً للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في الكلية الحربية، وشعر أن الرواية قد تكون جزءاً من حملة النظام الجديد الذي يقوده أنور السادات ضد نظام عبد الناصر. ولما شاهدت المحكمة الفيلم في عرض خاص أصدرت حكماً برفض الدعوى. هذه القضية كما وصفها المؤلف؛ طريفة أو خفيفة لا تقارن بما بعدها، لأن الخطورة ازدادت، خصوصاً بعد اغتيال الكاتب فرج فودة عام 1992 وانتشار الحديث حول قوائم اغتيال للمبدعين، ضمّت صاحب «بين القصرين»، وبات الأمر مثيراً للقلق بعدما قال مفتي «الجماعة الإسلامية» الشيخ عمر عبد الرحمن: «لو قتلنا نجيب محفوظ من 30 سنة، ما كان سلمان رشدي تجرأ على إصدار روايته». وهو كان يقصد رواية «آيات شيطانية»، التي صدرت في العام 1988 وأثارت ردود فعل صاخبة في العالم الإسلامي وزادتها إثارة فتوى الخميني في السنة التالية بإهدار دم رشدي. يتناول الكتاب تطورات ما جرى بعد محاولة اغتيال محفوظ في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 1994، فقد اعترف المتهم محمد ناجي وهو يعمل فني كهرباء بأن قرار قتل محفوظ أُتخذ بناء على فتوى عبد الرحمن وأنه لم يقرأ الرواية. إلا أن أحد المحامين والذي اعترف بأنه لم يقرأ الرواية باعتبارها كفراً، التقط جملة من ملف التحقيقات في محاولة الاغتيال جاءت على لسان محفوظ؛ الذي قال: «وأنا بعد ما فُقت سألت المدام وقلت لها هم هيعملوا لي عملية فقالت لي إن العملية اتعملت خلاص وده دليل على أن الجبلاوي مش غضبان مني». كان محفوظ بأسلوبه الساخر يرد على من أساء تفسير شخصية «الجبلاوي» في «أولاد حارتنا»؛ وأنها تقصد الذات الإلهية. حرَّك المحامي دعوى «ازدراء أديان» وطالب بتفريق محفوظ عن زوجته، أمام محكمة جنايات المنصورة (شمال مصر) التي قدَّرت الظروف الصحية لمحفوظ وأعفته من الحضور بنفسه واكتفت بمحاميه أحمد السيد عوضين، وفي الجلسة الخامسة، التي عقدت في تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 قررت عدم قبول الدعوى.
ويحكي عوضين، أن محفوظ تبرع بنصف مليون جنيه من ثروته الطارئة العائدة إلى «نوبل»؛ لبناء مسجد قرية العزيزية؛ على طريق مصر- الإسكندرية الصحراوي. قضية أخرى تناولها الكتاب حرَّك الدعوى فيها المهندس محمود الكردي؛ ابن شقيقة صاحب «حديث الصباح والمساء» بسبب جملة ذكرها محفوظ للصحافي الراحل رجاء النقاش الذي حرَّر مذكراته، بعد أن سجلها على شرائط كاسيت مدتها خمسون ساعة، إذ قال إنه حدث يوم وفاة والدته «سَرِقة أهلية» من جانب أولاد شقيقته لكثير من الصور والأوراق الشخصية، كما ذكر له أنه استوحى شخصية «سي السيد» في ثلاثيته الشهيرة، من زوج شقيقته زينب. وحصل محفوظ على البراءة أيضاً أمام محكمة جنح الدقي من تهمة السب والقذف. لم يكن يكفي دائماً أن يكون محفوظ مسالماً؛ لكي يتفادى؛ ليس فقط الاتهامات والدعاوى القضائية، وإنما الاغتيال، وكان أكثر ما يحزنه أن لا أحد من الغاضبين ناقشه في ما يكتب، وهو قال في التحقيقات الرسمية التي أعقبت محاولة الاغتيال: «إن رواية «أولاد حارتنا»؛ من وجهة نظري ككاتب؛ هي أول تبشير بضرورة تكامل العلم والإيمان، والرواية تقول بصريح العبارة إن الدين أنقذ البشرية من المظالم وإن العلم قادر أيضاً على أن يرتقي بها ويحسن حالتها بشرط ألا يحيد عن مبادئ الدين».
الوظيفة والموظفون في عالمه الروائي
حتى موعد انتهاء العمل كان نجيـب محفوظ مثالاً للموظف الملتزم، القريب من أدق أسرار عالم الموظفيــن، وما يحفل به من صراعات وطموحات وآمال ومكائد، ومصائــر ترتفع ببعضهم إلى ذرى المناصب، وتصيب الآخرين بخيبات الأمل. وقد أمدَّته هذه المعرفة بمادة غزيرة ألهمته نماذج أدبية خالدة في أعمال يمكن التأريخ بها لمصر خلال القرن العشرين.
وفي سلسلة «كتاب الهلال»؛ صدر أخيراً؛ لمناسبة عيد ميلاد صاحب «أولاد حارتنا» الـ 105 كتاب «الوظيفة والموظفون في عالم نجيب محفوظ» للباحث مصطفى بيومي.ويرصد الموقع الذي احتله الموظف في الحياة المصرية في أدب محفوظ. يضم الكتاب عشرة فصول؛ هي: «المكانة الاجتماعية للموظف»، «اقتصاديات الموظفين»، «البطالة والانحراف والفساد»، «البطالة المقنَّعة والتمرد على الوظيفة»، «المرأة والوظيفة»، «الموظفون والتعليم»، «الموظفون والثقافة»، «الموظفون والسياسة»، «صراعات ومعارك»، «لوائح وعقوبات». في المقدمة يسجل المؤلف؛ الأهمية التي يحظى بها الموظف في التاريخ الاجتماعي المصري، ومن ثم في عالم نجيب محفوظ، الذي يعبر عن هذا التاريخ الثري، لذلك لن يجد القارئ صعوبة في اكتشاف أن معظم أبطال روايات محفوظ موظفون، ونموذجهم الأكثر اكتمالاً كان في «حضرة المحترم»؛ التي تصل إلى الذروة في تجسيدها غير المسبوق لنفسية الموظف وملامح عالم الموظفين في الواقع المصري. بل إن الموظف موجود بقوة في رواياته التي يسلتهم فيها التاريخ، كما في «العائش في الحقيقة»، إذ يقول الحكيم آي – أبو نفرتيتي – لأخناتون: «عندما يأمن الموظف من العقاب سيقع في الفساد ويسوم الفقراء سوء العذاب».
وعبر صعود الموظف وتراجع مكانته، يقدم الكتاب قراءة لرحلة الطبقة الوسطى، وكيف تآكلت وتغيَّرت معها النظرة إلى الموظف والوظيفة، خصوصاً في السنوات الأخيرة. والمؤلف؛ مصطفى بيومي؛ روائي وناقد مصري، حصل على الماجستير عن أطروحته «الكتابات الصحافية ليحيى حقي وقضايا التغير الاجتماعي في مصر»، وله بضع روايات، وكتابات نقدية؛ منها سلسلة «وصف مصر في أدب نجيب محفوظ».
(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى