«ابن القبطية» رواية تشخص التطاحن العقدي والعمى الايديولوجي

ابراهيم الحجري

أصبحت الرواية تستقطب الشعراء وغيرهم من المهووسين بالكتابة في شتى صنوفها. فهي تستوعب كافة الأنواع الأدبية، فضلا عن كونها تتسع، بوصفها مجالا غير محدود، للتعبير عن كافة مناحي الشخصية الإنسانية، فهي تستضمر، بشكل من الأشكال، المسرح والشعر والقصة والحكمة والفلسفة والاجتماع وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا والتراث واللغات الحية والميتة، مثلما تتسع لاحتواء الملفوظ الذاتي ومحكي الأنا بشكل صريح في المتخيل الذاتي، أو بشكل ضمني عبر الالتباس بشخصيات المحكي الروائي.
ويعتبر وليد علاء الدين من الشعراء الذين أغوتهم الرواية، فجرب الخوض فيها مسلحا بلغته الرقراقة وخياله ومعرفته بالحياة في مختلف توجهاتها العامة والخاصة، فضلا عن امتلاكه ناصية السرد، والقدرة على التذكر والتوصيف والتقاط مشاهد الحياة، وهي أمور أساسية في العمل الإبداعي الروائي. يسلط وليد الضوء على العالم المصري، مشخصا بدقة، وبتفاصيل متناهية، الحراك الاجتماعي الذي يجتلب بقاع المجتمع، مستغلا خصب معرفته بالواقع المجتمعي المصري، وما يعج به من طقوس، وما تشده من علاقات تطبعها المفارقات والتناقضات، في زمن عاصف التحولات. وتكمن أهمية هذا المحكي الروائي في كونه يتجه، عكس المحكيات الروائية المكرسة، إلى المجموعات النووية في المجتمع، متخذا من العلاقات المعقدة في بنيتها الهشة والمتشابكة. وهي بذلك، تتجاوز وظيفتها باعتبارها سردا ماتعا، إلى كونها تتّسع لتقارب الدراسة السوسيولوجية لهذه البنية المركبة. لقد سخّر علاء الدين موهبته السردية مستعينا بخبرته في الحياة، بوصفه شابا ترعرع في القيعان المجتمعية، وتشبع بثقافة المجتمع، وعرف عاداته وتقاليده، وكبرت معه المدن والهوامش، فظلت عالقة، شديدة السطوع في ذاكرته، ما جعله مهيأ للقيام بوظيفتي الحكي والبحث عن حفريات المكان والزمان والإنسان في الآن. فكانت الرواية مشبعة بعبق هذه الازدواجية دون أن تنال من الحضور الجمالي والدلالي.

1. هويات قاتلة:

إذا كانت الغاية الأسمى من الدين كما تصورها النصوص السماوية بلا استثناء، هي إشاعة الخير والسعادة والوئام والمحبة والتكافل والتعايش، فإن الرواية تعمل بناء على تشخيص واقع الحال، على إبراز الوجه الآخر لتمظهر الصراع الديني وتقاتل الهويات العقدية، التي تستند إلى التأويل المغلوط للنصوص المنتقاة على المقاس الإيديولوجي. فتصبح مؤدية عكس المدلول المبتغى منها، وتكون بمثابة الشرارة التي تعقد حياة الفرد والجماعات، فتسحب منه سعادته، وتعيشه في ضنك، مثلما لو كانت الفلسفة من الدين هي تقييد الناس وحرمانهم من رغباتهم وأحلامهم، وإشعال فتائل الصراعات الدامية بينهم، وإشاعة التنافر والعنف بين معتنقي الديانات المختلفة. وقد شخصت الرواية هذا الكابوس وأثره على الفرد خاصة، من خلال قصة شخصية يوسف حسين الذي حرمته أسرته من الزواج من معشوقته بذريعة كونها تخالف عقيدتهم، دون اعتبار للمشاعر الإنسانية، والمصائر الفردية، والرغبات الحياتية المندمجة في إطار القانون، والمباحة في جميع المواثيق الدولية وحتى الدينية أحيانا. وتتعقد مأساة يوسف بتعلقه بفتاة إسرائيلية تريد أن تظفر منه ببنت تجد نفسها بين ثلاثة أديان، وكأن الرواية تريد ان تكون هذه البنت ثمرة تزاوج عدة أديان، أو زبدة التلاقح الديني، حتى لا تبقى هناك أبدا صراعات بين البشر ناجمة عن هذا الاختلاف.
لقد تولدت لدى الشخصيات المستهدفة في الرواية، أعطاب متعددة ناجمة عن التدخل الإيديولوجي المغلف بالديني في حياة الأفراد، وحرمانهم من تقرير مصيرهم، خاصة في أمر حميمي وشخصي جدا، وهو الزواج، وتقرير الأمر في اختيار الشريك وفق المواصفات الذاتية. وتنتج عن هذا العنف الرمزي إشكالات متعددة لدى الفرد، منها ما هو نفسي، ومنها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو اقتصادي، حيث ينعدم الأمان داخل المجتمع، وتسود قيم التطرف والحقد، وينطوي الفرد على نفسه، مثلما تتشكل الفتن بين عناصر الأمة الواحدة المفروض فيها الانسجام والاتحاد والتكافل، وتحل محلها قيم بديلة، كالفرقة والاضمحلال والتنازع والفتن والحروب أحيانا لأتفه الأسباب، خاصة في ظل سيادة البيروقراطية واشتعال العلاقات بين الأفراد والمجموعات.

2- نزوع طهراني:

عقب هذا العرض الدراماتيكي لحالة الفرد داخل جماعة تنهشها قيم التطرف والصراع الديني والعنف الرمزي تحت ذريعة الإيديولوجيا، يتجه المحكي الروائي إلى التفكير في برامج بديلة للخلاص، والتطهير الذاتي رمزيا، فكان أن تخللت الخطاب عدة تلميحات لها دلالتها المعبرة عن هذا النزوع. والغاية منها روائيا، تحرير ذات الراوي، والشخصيات معا من ثقل العالم القاسي الذي يقض مضجع المسرد الروائي. ومن بين هاته الإحالات الدلالة الرامزة للتطهر والرغبة في الانعتاق، ورسم حدود خريطة محلوم بها للمنظومة القيمية البديلة التي تؤسس لها الرؤية الفكرية للرواية:
الولادة المنفتحة على التعدد والاختلاف، وهي ولادة حلمية من الراوي بعالم متجدد يسوده الأمن والأمان، عالم لا يُخشى فيه من التدخل في الحريات لأسباب عقدية أو إيديولوجية، ولا يحرم فيه الفرد من حرية الحسم في اختياراته ومواقفه دون الاحتكام إلى عوائد مفروضة تحت ذرائع شتى منها التدخل العرقي والإثني والديني في تقرير المصائر الفردية بلا اقتناع ولا رؤية منطقية للحياة والنصوص المؤطرة لها. لذلك، كان اختيار مولودة أنثى بثلاثة أديان، من لدن المحكي الروائي، اختيارا موفقا، للتدليل على التجدد والحلم بعالم متسامح، تتعايش فيه المختلفات والمتعارضات والمتناقضات على قدر كبير من الانسجام والاحترام والتقدير المتبادل.
الكتابة، بوصفها عاملا تطهيريا، استند إليها الروائي في عمله السردي لإعادة التوازن للعالم المختل الذي حز في نفسه، وصعب عليه تركه على صورة الانهيار الذي ساده، على الأقل على مستوى نفسية الشخصية الرئيسة يوسف حسين، الذي لم ير له بدا في مزاولة عمل تطهيري لا يمكن أن يكون سوى الكتابة، باعتبارها أفقا يرمم تمزق الذات، ويخرج نتوءات هزيمها من الروح، وفوق ذلك، يعيد للعالم المسودّ بعضا من ضيائه، لذلك يُكتب على يوسف الخائب في قصة حبه الصادقة المجهضة لعوامل لا دخل له فيها هو ومعشوقته، لأنها ترتبط بقيم المجموعة البشرية التي ينتمي إليها، أن يمارس الكتابة الروائية كسبيل للخلاص من انهياره الوجداني والنفسي، وكانخراط في تأسيس عوالم نقيضة تتيح للفرد هوامش من عيش حياته دون تدخلات تعسفية من الأنساق المتخللة للحياة مهما كانت طبيعتها.
يعتبر الاستناد إلى تجارب متصوفة معروفين، في حد ذاته، تفكيرا في اختيار تأويلي بديل للنص يشرع الاختلاف، وينص على إشاعة المحبة والتوادد بين البشر، ونبذ العنف وأنواع الصراع مهما كانت الدواعي، ويتعلق الأمر هنا، بالفلسفة الصوفية، بوصفها تربية وتهذيبا وتطهيرا للذات، وشحنها بالقوى الباطنية الكفيلة بمواجهة القيم المتسللة إليها من الخارج. رواية «ابن القبطية» بقدر ما سعت إلى تشخيص وضع قائم، حرصت على فتح كوات للذات لتتنفس هواء آخر ينتشلها من مأزق الاختناق. وبقدر ما جسدت صور العفونة التي تفسد سعادة الناس، وتؤرق مضجعهم، وتجعلهم عرضة لكافة أنواع الضنك والخوف والتوجس، بقدر ما أسست لرؤيا حلمية تنهج بالروح مسلكا آخر للتعامل مع وضعية الاختلاف الرحيم، والاطمئنان إلى الجوهر الإنساني الذي لا تفسده أبدا قضايا الاختلاف في الاختيارات والانتماءات والتلوينات مهما بلغت حدتها، فذلك سر من أسرار استمرار العمران، وتطور الحضارة البشرية. وعلى العكس من ذلك، لن يؤدي التنافر والعنف واستئصال الآخر النقيض، ورفض وجود هذا المختلف إلا لمزيد من الاحتقان والصراع واشتعال الحروب، وخراب العالم وسفك الدماء… وهذا ما جاءت الرسالات السماوية والأديان لتحاربه في الأصل، قبل أن تسخرها التأويلات الإيديولوجية المغرضة والعمى السياسي النفعي، وتغير بوصلتها في اتجاه عكسي يخدم مصالحها، ويخرب الإنسان والكون.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى